وكالة قاسيون للأنباء
  • الجمعة, 27 سبتمبر - 2024
austin_tice

فتاة سورية تروي ما حدث معها داخل السجن وتنقل وصية عروس من الداخل



قاسيون - رصد

خرجتْ من المعتقل منذ ثلاثة أيام، بعد أن قضتْ ثماني سنوات في معتقلات النظام، وحين طلبَ منها موقع “تلفزيون سوريا”، إجراء هذه المقابلة، اشترطت نشر كل المعلومات التي سترد خلال إجاباتها، وخصوصاً “وصية العروس”.
أنا فتاة سورية، لي عدّة أسماء، ففي فرع فلسطين مثلاً، كان اسمي 3/5، رقمي ثم رقم غرفتي، وفي سجن المزة العسكريّ صار اسمي 2/32، أما خلال جلسات التحقيق يغدو لي أسماء كثيرة، يستطيعُ معظم السوريين تخمينها، سأجيبُ عن كل الأسئلة، وآملُ أن تتسعَ سطور مقابلةٍ واحدة لرواية ثماني سنوات، قضيتها معتقلةً بين فرع الأمن العسكري وفرع فلسطين وسجن المزة وصيدنايا.
دهمت دوريّةُ أمن منزلنا، سألوا عني فورَ دخولهم، فقلتُ لهم :”أنا فلانة”، ليصدِر رئيس الدورية أمراً بأخذي إلى السيارة فوراً، لم يكن والدي في البيت حينها، ولم تنفع توسلاتُ أمّي، وحين تيقنتْ من عجزها، حاولتْ أن تعرفَ الجهة التي سيأخذونني إليها، فصرخ بها الضابط، وهددها بأخذ بقية إخوتي إن لم تصمت.
فور جلوسي في السيارة بين عنصرين، قاموا بتقييدِ يديّ خلف ظهري، وعصبوا عينيّ بقماشة مخصصة لهذه الغاية على ما يبدو، وهكذا سأكون خلال السنوات الثمان التالية بمجرد مغادرة الزنزانة مقيّدةً معصوبة، بعد نحو ربع ساعة
وصلنا إلى مكانٍ ما، اقتادني العنصران، صعدوا درجاتٍ ثمّ نزلوا بي أخرى، تعثرتُ خلال ذلك، رفسني أحد العنصرين على عدة مواضع في جسدي، متلفظاً بشتائم جعلتني أقفُ من فوري، استلمني منهما شخصٌ ثالثٌ، سار بي بضع خطوات، ثم توقف ففكّ قيدي ونزع عصابة عيني، فتح بعدها باب زنزانة ضيقة “منفردة”، دفعني للداخل بقوة، فتعثرتُ مجدداً بأجساد خمس نساءٍ كنَّ متكوراتٍ داخلها، كأننا نعرف بعضنا منذُ زمن سألتهنّ، فأجْبْنَ هنا الأمن العسكريّ.
مرّت عدّة أيام ولم يطلبوا أحداً منا للتحقيق، وحين سألتُ شريكاتي في الزنزانة، تفاجأتُ بأن حالي كحالهنّ جميعاً، وأن إحداهنّ قد مضى أكثر من شهر على وصولها!
أصابتني لفظة “شهر” برعب شديد، وتساءلتُ كيف استطاعتْ أن تبقى حيةً في هذا القبر شهراً كاملاً؟
بعد يومين من تساؤلي، فتح السجان باب الزنزانة ثم لفظ اسمي، لم يمهلني الوقت الكافي للخوف، لأنّ حفلة الضرب والشتائم بدأت بمجرّد قولي له: “أنا”.
خلال ممشى طويل، تمكّن السجانُ من إقناعي باسمي الجديد” كلمة نابية”، وحرص أن أردد هذا الاسم عدة مرات وبه دخلتُ مكتب التحقيق.
سمعتُ صوت المحقق، حين طلب من السجان أن يجلسني على ركبتيّ، ثم قال لي ذات الصوت:” هلأ مو نحنا أولى فيكي من الخليجيين والأتراك”؟
لم أفهم إلى ما يرمي، لكنه وضح ذلك فوراً بتلميحاتٍ جنسية، كنتُ قد سمعتُ عما تتعرضُ له المعتقلات في سجون النظام، لذلك لم أعترض، بل دعوتُ الله أن يكتفوا بالكلام، ثمّ قلتُ للمحقق:” متل ما بدك سيدي”.
بعد عدة أيام من التعذيب المتواصل، طلبني المحقق، حين وصلتُ مكتبهُ أخبرني بنبرة هادئة، بأني قد أكونُ صادقةً في جزء من كلامي، فكيف لصبيّة مدنيةٍ، أن تعرف عدد المخطوفين ومذهبهم، ثمّ استدركَ المحقق بأنّ المنطقة المحاصرة صغيرةٌ، لذلكَ أنتِ رأيتِ أو سمعتِ بموضوع دفن الجثث، ثمّ تابع المحققُ بأن الإرهابيين حتماً أعدموا المخطوفين سراً، فقررَ ألا يسألني عن هذا التفصيل.
لم ينه المحققُ كلامه، وأكدَ لي أنّ أناساً مهمين، حدّثوهُ بشأني، ووعدهم بمساعدتي، لكنه اشترط لمساعدتي بقوله، يجبُ أنْ أقولَ أي معلومة، “حتى لو معلومة بتعتبريها تافهة قوليها معليش”، وذكّرني بأن أحداً لم يقترب حتى من غطاء راسي، حتى الآن.
في هذه اللحظة تدخّل السجانُ للمرة الأولى بالتحقيق، وقال مخاطباً إياي:” إن لم تقدّري مساعدة معلمنا لكِ، سنقتربُ من أماكنَ تتجاوزُ غطاءَ راسك” شعرتُ بيده على رأسي، ثم عنقي ثم كتفي كانت كلُّ خلية في جسدي تردد:” يا رب أنقذني”.
خفتُ كثيراً من يده، التي بدأت تنحدر أسفلَ كتفي، صرختُ: “اي اتذكرت شغلة سيدي” فقال المحقق للسجان أبعد يدك، ورحتُ أخبرهم بأننا كنا نسمع كل مدة، أن المسلحين كشفوا أمر مخبر للنظام، ثم نسمع أنهم نفّذوا فيه حكم القصاص، طبعاً دون ذكر أسماء المخبرين، ولا أذكر أنّ أحداً أحصى عددهم، بعد ذلك سرى حديث في الحي أثناء الحصار، أنّ الكلاب صارت خطرةً، بسببِ أكلها لحمَ الجثث، ختمتُ اعترافي بنوبة بكاء وتوسّل للمحقق كي يرحمني
طلبوني بعدها لحفلات تعذيب دون تحقيق، كانت المواعيد تتباعد، وهذا يحصل حين تأتي معتقلات جدد، استمرّ اغتصابُ المعتقلات، لم تكن حصص الاغتصاب متساوية، فالأمر يخضع لاعتبارات العمر والجمال وموقع أقارب المعتقلة في أجسام الثورة، حُقَنٌ لمنع الحمل، وحبوب كابتيكول لزيادة الهياج، حتى المكياج حضر في إحدى الليالي، يومها دخلت السجانة غرفتنا، نادت على الرقم 21/5، فتقدمتْ صاحبة الرقم نحو الباب، قالت لها السجانة:” زوجك فطس وقرر الضابط من اليوم يكون بداله”.
ناولتنا السجانةُ المكياج، طالبةً منا تحضير العروس كما يجب، “بدنا نزفّها للمعلم بعد نصف ساعة، وإذا صار تأخير، رح نزفكن كلكن اليوم.
كان الجميع يبكي باستثناء العروس، ذهبتْ بلا دموع، لتعود بعد وقت طويل، بلا دموعٍ أيضاً!!
جلستْ العروسُ قليلاً ثم قالت لنا:” إذا متت هون أكيد رح تعيش وحدة منكن وتطلع، أمانة تقول لكلّ الناس اللي برا إنه عاطف نجيب نفّذ تهديده، ما حبلوا منو كم وحدة، حبلوا آلاف السوريات”.
سنتان وسبعةُ أشهرٍ مضى عليّ في فرع فلسطين، منذ انتهى التحقيق الرسمي، وأنا أنتظرُ الفرج بالانتقال إلى سجن عدرا، كحال جميع من تركنَ هذا الجحيم، لكن السجانة بعد كل هذا الصبر، قرأت عدة أرقام وأكدت أن الانتقال سيكون لسجن المزة العسكري، وفعلاً تمّ نقلنا بالوداع ذاته.
قبل أربعة أيام دخلت السجانة، قرأتْ من ورقةٍ ثمانية أسماء، بينها اسمي الذي أطلقه علي أبي، ثم قالت إن الرئيس أصدر عفواً عاماً عنا، وإنّ كل الموجودات معنا مشمولاتٍ بالعفو، لكنّ الأمر يحتاج إلى أيام لخروج كل الدفعات، كنا نبكي ونتحرك كمن أُصِبنَ بمسّ، دون وعي منها احتضنت إحدانا إحداهن، ابتعدت الإرهابيةُ عن الأخرى واعتذرت.