ما الذي يدفع واشنطن إلى المماطلة في حسم المفاوضات بين القوى الكوردية السورية؟
ما هي منطقة شرق الفرات ؟
لاشك أن الولايات المتحدة الأمريكيه لا تترك فرصة أو مناسبة وإلا وتؤكد فيها بقاء قواتها داخل سوريا حتى يتم القضاء على خلايا داعش ووقف تمدُّد الميليشيات الإيرانية داخل سوريا والعراق بحسب زعمها لإعادة الأمن والاستقرار إلى منطقة شرق الفرات التي تتمتع اليوم بخيرات وإمكانيات هائلة وكبيرة سواءً أكانت اقتصادية أو ثقافية أو حتى اجتماعية التي تتعايش فيها كافة الأديان والمكوّنات والمذاهب منذ الآلاف السنين.
منطقة شرق الفرات في سوريا باتت اليوم بمثابة "دويلة" داخل دولة، تقدّر مساحتها ب35 الف كيلو متر مربع اي أكبر من مساحة لبنان وقطر، كما تسيطر قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة الامريكية بشكل مباشر على نحو 90 في المئة من الثروة النفطية بالإضافة إلى 45 في المئة من إنتاج الغاز. فهذه القوات تتمتّع اليوم بحماية روسية - أمريكية بعد اتفاق مشترك الذي انعقد فيما بينهم في 2019 في تل ابيب، وكثير من تفاصيل هذا الاتفاق مازال غامضاً وطي الكتمان ويدور حوله الكثير من التساؤلات.
كما يبلغ مجموع الاحتياطي النفطي المؤكّد في سوريا نحو ملياري برميل أي أقل من (0.18%) من الاحتياطي العالمي.
فهي تتوزع اليوم في مناطق تقع بين قوات النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية.
عودة المبعوث الأميركي إلى شرق الفرات؟
عاد في منتصف شهر الثاني عشر من 2021 نائب المبعوث الاميركي الجديد ( مات برل) وفريقه الى شرق الفرات، التقى بالقوى الرئيسية في المنطقة (أحزاب الوحدة الوطنية، المجلس الوطني الكردي، وجهاء وشيوخ العشائر في الرقة وديرالزور) ، في جميع اللقاءات تم التأكيد أن واشنطن تعمل على إعادة الأمن والاستقرار إلى هذه المنطقة، ودعم المشاريع التنموية، وفتح المجال أمام المنظمات الإنسانية لقيام بدورها الفاعل على أكمل وجه.
كما تم التأكيد على أن الولايات المتحدة الامريكية ستبقى في المنطقة (عسكريًا) لحين الانتهاء من آثار التي خلفها تواجد داعش في المنطقة، والعمل على تفكيك مخيم الهول بطريقة منظمة ومدروسة، وإيجاد الحلول لآلاف الناس الذين يقطنون في هذا المخيم، لكن رغم كل ذلك مازالت هناك معادلات لم يتم إيجاد الحلول المناسبة لها فهي تنتظر فك شيفراتها واللغز الذي يدور من حوله .
ما الذي تحمل في طياتها فوهة مدافع التركية الموجهة إلى شرق الفرات؟
يبدو أن واشنطن تحاول توسيع اتفاقها مع الروس على حساب تركيا وتهميش دورها ومحاولة تقليص نفوذها في المنطقة، الأتراك لديهم تاريخ طويل حول كيفية التعامل مع السياسة الخارجية الاميركية لأنهما تشتركان ضمن حلف واحد (الناتو) ومطلعان تماماً على ما يدور في مخيلتهم ومخططاتهم وكيفية التعاطي مع الأزمات الداخلية والخارجية.
فوهة المدافع التركية تحمل اليوم في طياتها العديد من الرسائل وهي بمثابة رسائل تحذيرية لواشنطن وموسكو في شرق الفرات، يعلم القاصي والداني أن الأتراك صعدوا في الآونة الأخيرة من حدّة قصفهم لمنطقة كوباني وعين عيسى، تشير من خلالها أن تقسيم المُقسّم وتجزئة المُجزّأ في المنطقة أمر مرفوض وغير قابل للنقاش، ومن ثم تمهد أنقرة لعمل عسكري موسع لأنها تعتقد أن كل منطقة تخطت عليها أقدام حزب العمال الكوردستاني هي أرض تركية بامتياز، يبدو أنهم أي الأتراك ينتظرون أجوبة محددة من واشنطن حول طبيعة علاقتهم مع قسد ومصير قواتهم داخل سوريا، لا شك أن الامريكان يستقوون اليوم بالتفاهم مع موسكو لإدارة هذا الملف ، فقد كلّف الأمريكان أنفسهم بالعمل على تقزيم تمدد التركي داخل سوريا ووضع حدٍّ له، وكلفت موسكو نفسها أيضاً بضبط إيقاعات طهران ومليشياتها داخل سوريا، ومن هنا نستطيع القول إن اتفاق تل ابيب (الثلاثي) آنف الذكر يتم تطبيقه بكامل حذافيره، وبات جلياً أن تل أبيب تدير اللعبة والزوايا وفق مصالحها بعيدة المدى في الشرق الأوسط من خلال تفكيك الدول وإضعافها أمام اجتياحها للمنطقة من خلال الانقلابات الجماهيرية وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية فيها، واستهداف اقتصاد الدول التي ترفض الخنوع والركوع أمام مشاريعها السياسية في المنطقة.
لماذا تتماطل واشنطن في حسم المفاوضات بين القوى الكوردية في شرق الفرات؟
هذا سؤال يخطر ببال كثيرين، لكن يفتقدون إلى الجواب، فحيتان البيت الأبيض وحدهم يعلمون جيداً أن واشنطن لم تتفق بعد على الخطوط العريضة مع انقرة حول الوضع القائم على الأقل في المناطق الشمالية لسوريا، واشنطن تتردد في حسم المفاوضات لأنها تخشى ردة الفعل التركية، فكما قلنا فوهة المدافع والتصعيد العسكري التركي تحمل العديد من الرسائل للأمريكان، فهم يجيدون قراءتها بشكل جيد، كما تخشى واشنطن من حركة تمرد عشائرية مدعومة من أنقرة وطهران على غرار ما حصل في العراق وخاصة منطقة شرق الفرات سهلة ومفتوحة للجميع ، كما تخفي واشنطن تحت مظلة صمتها العديد من الخفايا، فانسحابها الممنهج من افغانستان وإعادة انتشار قواتها داخل العراق هو لتحضير ما هو الاسوأ داخل شرق الفرات، بمعنى أنها تخلصت من نقاط ضعفها حتى لا يتحوّل جنودها في الأماكن المتفرقة في العالم إلى أهداف مباشرة للجماعات المتطرفة تحاربها منذ العقود في المنطقة، وخاصة الصحافة الغربية باتت تتحدث عن تواجد العشرات من المستشارين الاسرائيليين والبريطانيين يرافقون الجيش الامريكي في سوريا، قيل سابقاً بأن لندن تحضّر، وواشنطن تنفذ، وتل ابيب تدفع، وإذا ما اشتركت هذه العوامل الثلاثة داخل دولة واحدة فانها ذاهبة نحو التقسيم لا محال، فسوريا تشكل اليوم هدفاً مباشراً لهذا لمحور الذي يحاول التلاعب بقواعد التاريخ والجغرافية في الشرق الأوسط .
بالمحصلة ، الولايات المتحدة الامريكية التي تقود «محور الشر» في الشرق الأوسط مطالبة اليوم بالكشف عن مخططاتها بعيدة المدى في المنطقة والكف عن سياسة إضعاف الدول ومن ثم تفكيكها، وبناء على ماذكر فإن واشنطن لن تسحب قواتها من سوريا على الأقل قبل عشر سنوات المقبلة، عندما تتجمع مصالح واشنطن ولندن وتل ابيب داخل دولة معينة فإنها ذاهبة نحو الانقسام لامحالة، يبدو أنهم أتوا بالروس إلى سوريا لوضعها في مواجهة الأتراك فقط لمنعهم من التمدد و السيطرة على سوريا، كما فعلت إيران في العراق واليمن بعد عام 2003 ، الروس حصلوا على ضمانات مصالحهم الإستراتيجية في سوريا، وهي بقاء الأسد في الحكم، الاعتراف بالتواجُد العسكري الروسي في طرطوس وحميميم وعدم التعرُّض لقواتهم واحترام تنقلاتهم العسكرية في سوريا، وبناء عليه وتحت صمت الروسي وربما بضوء أخضر من موسكو، تخلّى النظام عن منطقة شرق الفرات لصالح المشروع الغربي الذي ضمّن بقاءه في الحكم إلى إشعار آخر، رغم المئات من المجازر التي ارتكبها في سوريا واختفاء قانون قيصر عن المشهد الذي تحوّل إلى بيضة قبان وورقة لابتزاز"بشار الأسد" كلما دعت الحاجة، ومحاولته إعادة عقارب الساعة إلى الخلف.
الخلاصة ، واشنطن تجّر اليوم المنطقة نحو حرب إقليمية دولية متداخلة فيما بينها من خلال ثبيت أمر واقع جديد في شمال شرق سوريا رغماً عن الجميع وعلى حساب رمي المناطق الكوردية إلى مابين مخالب فصائل المعارضة والجيش التركي داخل سوريا، وهذا ما سيرفضه دول المنطقة ومهما كلف الأمر وبالتالي شعوب المنطقة هم المعنيون الوحيدون بدفع فاتورة هذه المشاريع ، وسيجدون أنفسهم ما بين نارين، إما التهجير أو الانخراط في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، لهذا السبب الوضع داخل سوريا لا يتحمل مزيداً من التصعيد، وبحاجة إلى توافق دولي إقليمي لوضع قواعد جديدة في المنطقة، إصرار واشنطن واستهتارها بقدرات دول المنطقة وخاصة تركيا وايران وفرض واقع جديد على الجميع يقودنا الى فرضية فتح صراع مفتوح ومباشر بين الدول المعنية بالشأن السوري، أنقرة وبحسب مسؤوليها لا يمكن لها أن تقبل بواقع جديد وحتى لو كلفها حرب مباشرة مع واشنطن وموسكو في سوريا، كما قلت إن فوهة المدافع التركية الموجّهة نحو نقاط ومواقع معينة لقوات سوريا الديمقراطية الحليفة لواشنطن تحمل في طياتها العديد من الرسائل، وبناءً على كل ما ذكر، فإن الشعب السوري يحتاج اليوم الى حل شامل من خلال مفاوضات جنيف وتطبيق قرار 2254 فالمشاريع المجزأة تدفع بالمنطقة نحو الهاوية ومزيداً من التهجير نحو أوروبا، وبالتالي تقوض أيّ عملية انتقال أممية في جنيف لمصلحة مسارات بديلة، مثل أستانا، يكون لموسكو الرأي الأكبر فيها. وهذا يجعل التصريحات الدولية بشجب ممارسات النظام وطي ملف المعتقلين وحدها غير كافية، ما لم يُطبَّق حل سياسي يضع حدًّا لتلاعب النظام وحلفائه بالقرارات الدولية، في ظل عدم وجود أيّ ضمانة لتغيير مواقف الدول تجاه شرعية بشار الأسد .