رمضان .. من وحي الذاكرة الثقافية والشعبية*
قاسيون ـ فؤاد عبد العزيز
تظل رواية خان الخليلي لـ "نجيب محفوظ"، من أهم الأعمال التي نقلت أجواء رمضان في مصر خلال حقبة الأربعينيات من القرن الماضي، حيث يستفيض الكاتب في تصوير الحارة الشعبية المصرية وطقوسها الرمضانية، التي تشبه إلى حد كبير طقوس وعادات الحارة الشعبية في الكثير من المدن السورية، ولكن في زمن مضى.
الكثيرون اليوم، يتحدثون بلوعة عن ذاك الزمن الجميل وطقوس رمضان الحميمة فيه، وكيف أن الناس كانت تنتابها أحاسيس مختلفة بقدوم هذا الشهر الكريم، بحيث أنه كان بالفعل موسماً لطقوس أهم من موضوع الابتعاد عن الطعام والشراب، وإنما لإعادة ترتيب العلاقات الاجتماعية والإنسانية سواء بين أفراد الأسرة الواحد أو بين عناصر المجتمع.. لا نقول أن الصيام في ذلك الزمن لم يكن صعباً، ولكن الأصعب أن لا تصوم..!
لم يكن التلفزيون في ذلك الوقت قد فرض نفسه كأحد عناصر رمضان الأساسية. وهو وإن كان موجوداً، ولكن على نطاق ضيق، لم يكن الرجال ينشغلون بمشاهدته، وإنما كان شيئاً ترفيهياً لا يؤخر الناس عن أداء واجباتها الاجتماعية والدينية.
لقد ظل مشهد رمضان محافظاً على بعض رونقه، حتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي، لكن بعد ذلك التاريخ تغير الحال، وغزت الفضائيات البيوت ومثلها الاتصالات، وأصبحت الناس تتهرب من لقاء بعضها البعض، ولزم الرجال والنساء البيوت، يخرجون منها بتثاقل إلى أداء بعض الواجبات الاجتماعية.. وزاد الأمر سوءاً، مع انتشار أجهزة الموبايل والكمبيوتر والانترنت، حتى أصبح أفراد الأسرة الواحدة لا يتآلفون مع بعضهم البعض، وأصبحت تسمع عن أحدهم أنه لم ير أبويه وأخوته، منذ أشهر طويلة، رغم أنهم يعيشون على مقربة منه. وأصبح مألوفاً أن ترى رجلاً يحث الخطى مسرعاً إلى البيت من أجل أن يشاهد المسلسل الذي يتابعه. أو أن الناس صارت تبرمج حياتها وفقاً لمواعيد عرض الأعمال التلفزيونية.
لم يعد رمضان طقساً دينياً أو اجتماعياً، وإنما طقساً تلفزيونياً بامتياز، ترى أحدهم يأكل وقت الإفطار وعينه على التلفزيون أو على جهاز الموبايل يحمله في يد ويأكل باليد الأخرى.. وإذا ما تحدث معه أحد أفراد الأسرة يطلب منه شيئاً، لا يرد عليه.. أو بالأحرى لا يسمعه ولا ينتبه إليه.
من عاش ذاك الزمن، هو من يكتوي بنيران هذا الزمن.. فما أصعب أن تعيش بين زمنين، أحدهما لا يشبه الآخر.