وكالة قاسيون للأنباء
  • الخميس, 21 نوفمبر - 2024

دور المثقف في بلورة هوية وطنية في سوريا

دور المثقف في بلورة هوية وطنية في سوريا

فؤاد عبد العزيز

يعاني المثقف في سوريا ، كما غيره في البلدان العربية ، من تراجع حاد بالثقة بالنفس ، ومن حالة عدمية ، سببها بالدرجة الأولى ، الهوة التي تفصل بينه وبين المجتمع .. فهو وصل في فكره وإنتاجه إلى مرحلة ما بعد الحداثة ، بينما العلاقات الإنتاجية التي تحكم مجتمعه لا تزال في مرحلة البداوة ، ومثلها طريقة تفكيره وقياساته الثقافية ، فهي الأخرى لا تزال تتحكم فيها العادات والتقاليد الاجتماعية والدينية .

هذا الوضع جعل المثقف ، يشعر بعدم الجدوى من كل ما يقوم به ، وبالذات إنتاجه الفكري ، الذي لم يكن جديا إلى حد بعيد .. بالإضافة إلى أننا يجب أن لا نغفل دور النظام السياسي ، الذي لعب هو الآخر ، دورا سيئا في توجيه أدوات المثقف نحو ما يراه مناسبا لتعزيز سلطاته .

في سوريا ، يصعب الوقوع على إنتاج فكري و ثقافي ، اهتم بموضوع الهوية الوطنية ، بعيدا عن تفكير السلطة السياسية وحزبها الواحد ، الذي يقود الدولة والمجتمع بالقوة الأمنية ، بل كانت الثقافة عموما ، تدور في فلك السلطة وتلتزم بالمحرمات التي وضعتها اتجاه تناول موضوع تنوع وتعدد المجتمع السوري ، بين إثنيات وأعراق وطوائف ، وحتى لغات ..

حرمان المثقف من تناول قضايا مجتمعه الأساسية ، جعله يشتغل على أشياء هامشية ، ليست من صميم هموم الناس وهواجسهم ، لذلك هو اتجه غالبا نحو الثقافة الغربية وأخذ ينهل منها آخر مستجداتها ، محاولا إلباس هذه المستجدات للثقافة العربية ، الأمر الذي زاد من غربته ، ليس عن مجتمعه فحسب ، بل وعن نفسه .. فهو في أفكاره "نيو ليبرالي " لكنه بنفس الوقت مضطر للذهاب إلى البقال من أجل استدانة حاجاته الغذائية حتى آخر الشهر ، أو أنه لازال يستحم من خلال تسخين المياه بالطنجرة ، و يتعرض كذلك كما غيره من أفراد الشعب للشتم والإهانة على أبواب الأفران وفي أقسام الشرطة ، بمعنى أن مفردات الحياة اليومية التي يتعامل معها لا تعزز إحساسه بالتفوق الذي يشعر به .. وهو ما ساهم بأن يكون المثقف عندنا غير فاعل في القيام بأي دور يتعلق بنهضة المجتمع وتنويره ، واختار بدل ذلك الانعزال والتقوقع في عالم لا يمت للواقع بصلة ..

لكن على جانب آخر ، غياب المثقف أو تغييبه خلال الحقب الماضية ، لا يعني بحال من الأحوال ، إلغاء هذا العنصر من المجتمع ، وعدم الاعتماد عليه في تغيير الواقع الذي نعيشه . فهو بلا شك ، ونقصد المثقف ، يجب أن يكون له مساهمة كبيرة ، وخصوصا في ظل ما تشهد الساحة السورية حاليا من صراع طائفي وعرقي ، يهدد البلد برمتها بالانقسام والتقسيم .. بل إن دوره قد حان الآن ، ويعول عليه كثيرا في ترقيع الشرخ الذي ضرب المجتمع السوري .. لكن السؤال الذي يتبادر للذهن مباشرة ، هو كيف وبأي أدوات يستطيع هذا المثقف إنقاذ البلد مما تمر به ..؟

الجواب بكل بساطة ، يكون عن طريق إعادة إحياء نشاطات المجتمع المدني ، وتأسيس المنتديات التي يجب أن تضم طيفا واسعا من الشعب السوري ، وإقامة حوارات جدية ، يتم من خلالها بلورة ، الهوية الوطنية الجديدة لسورية .. ولا نعتقد بان ذلك صعب أو مستحيل ، أو لا جدوى منه ، بل على العكس تماما ، فالساحة خالية ، ولديها تعطش للاستماع أكثر من أي وقت مضى ، لصوت العقل والمنطق ، وسط كل هذا الجنون ..

هناك اليوم بعض الأنشطة التي يقوم بها مثقفون في هذا الإطار ، وتلقى اهتماما متزايدا من قبل شريحة واسعة من الشعب السوري ، ومن مختلف المكونات ، بما فيها المتصارعة .. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ، منظمة مسار من أجل الديمقراطية والحداثة ، التي عقدت حتى الآن عشرات الندوات على وسائل التواصل الاجتماعي ، بمشاركة نخبة من المثقفين والمفكرين السوريين ، وشارك بها الآلاف مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية في سوريا ... وهي تناقش مواضيع على درجة كبيرة من الأهمية والحساسية ، سواء ما يتعلق منها بالجانب السياسي ، أو الجوانب المرتبط بإعادة بناء الهوية الوطنية لسوريا .

هذا النوع من الأنشطة ، باعتقادنا ، يجب أن يتوسع ويتمدد إلى داخل سوريا ، ويجب كذلك أن يقوده مثقفون متنورون ، غير متعصبين ، ويؤمنون بسوريا واحدة موحدة لكل السوريين .

نهاية ، ما لم يبادر المثقف ، ويتدخل في هذه المرحلة بالذات ، فإن التاريخ لن يرحمه .. لأن كل ثورات التغيير في العالم التي حققت الانتصار والانتقال إلى مفهوم العدالة والديمقراطية ، كانت تنطلق من أساس فكري ونظري ، وهو ما افتقدت إليه الثورة السورية حتى الآن ، وكانت النتيجة ما نشهده ونشاهده حاليا من انقسام وتمزق يكاد يضرب أفراد العائلة الواحدة ، وليس الوطن الواحد فحسب ..