صحافة الزبالة والصرف الصحي*
قاسيون ـ فؤاد عبد العزيز
عندما وصل حافظ الأسد إلى السلطة في انقلاب 1970، كانت الصحافة السياسية أول ما صب جام حقده عليها، وبالذات التي تتناول السياسة الداخلية.. لذلك سعى لخلق اهتمامات جديدة عند السوريين، من خلال استبعاد الأسماء الصحفية التي تربت على حرية الصحافة في الستينيات، واستقدام جيل جديد من الصحفيين، وتربيته على هذه الاهتمامات..
من هذه الاهتمامات التي أوجدها حافظ أسد بدل السياسة، كان قطاع الخدمات الذي شهد تراجعاً كبيراً في عهده.. حيث أغرق الناس بالعديد من المشاكل الداخلية، من كهرباء ومياه وغلاء وندرة في السلع بالإضافة إلى أكوام الزبالة والصرف الصحي المكشوف.. إلخ، وهو ما وفر أمام الصحف المحلية، مادة كبيرة للكتابة عنها وانتقادها بمنتهى الحرية.. ومن خلال هذه المواضيع تبلور جيل جديد من الصحفيين، جل اهتمامه ومعرفته الصحفية هو الكتابة عن الزبالة والصرف الصحي، بينما لم تعرف الصحافة السورية خلال عهد حافظ الأسد محللاً سياسياً واحداً مرموقاً.. وكانت الصفحات السياسية لا يقرأها أحد ولا حتى عناوينها..
وعندما جاء بشار إلى السلطة بخطابه الإصلاحي الوهمي، كان هذا الجيل الصحفي الجديد هو الذي تولى زمام الأمور في الصحف المحلية.. لذلك حدث ما يشبه الصراع بين الصحفيين الذين حاولوا الاستفادة إلى أقصى حد من مناخ الحرية الوهمي، وبين مسؤولي هذه الصحف، الذين تلقوا الأوامر بعد تجربة قصيرة من الانفتاح، بالعودة إلى زمن الثمانينات واهتماماتها الصحفية.. فعادت مواضيع الزبالة والصرف الصحي لتتصدر عناوين الصحف المحلية.. وعاد الصحفيون للنظر إلى تحت، بعد أن جربوا لفترة قصيرة النظر إلى فوق..!!
لذلك كانت من أهم اللقطات الفنية للمصور الصحفي، هي لقطة حاوية الزبالة الطافحة إلى ما حولها.. ثم يكتب فوقها مسؤول التحرير "إلى متى.. أو برسم المسؤولين.."، مع عدد كبير من إشارات الاستفهام والتعجب..
وراح الصحفيون يتسابقون، على إنجاز أفضل موضوع عن الزبالة والمجاري، وسط استحسان وتشجيع مسؤوليهم في العمل..
ففي أحد المرات قامت صحفية بإنجاز تقرير تلفزيوني عن أكوام الزبالة في أحد مناطق دمشق، وقدمت نهاية التقرير، "الستاند"، وهي تقف على إحدى هذه الكومات، الأمر الذي حاز على إعجاب واستحسان مسؤولي التحرير ومدير الأخبار ومدير التلفزيون.. وصفقوا لها طويلاً عند عرض التقرير..
أما صديقي الصحفي، الذي كتب تحقيقاً عن المجاري، أثار ضجة في تلك الفترة، شكى لي مرة، أن جاره دعاه على فنجان قهوة في منزله، ثم فوجئ به يريه مجاري بيته، طالباً منه كتابة تحقيق عن الموضوع مع عبارة "إلى متى..؟!".
باختصار، إذا حاولنا أن نقرأ المشهد الصحفي في سوريا اليوم، فإن أغلب الصحفيين الذين مارسوا التمرد الصحفي في الفترات الأولى لحكم بشار، كانوا الأسرع التحاقاً بالثورة.. ومن تبقوا هم من اقتنعوا بخطاب السلطة، بأن سقف اهتماماتهم ومواضيعهم يجب أن يظل في الكتابة عن الزبالة والمجاري.. مع العذر من الزملاء..