وكالة قاسيون للأنباء
  • الخميس, 28 مارس - 2024

حدود نعيها

حدود نعيها

قاسيون ـ إيمان مسلماني

قال لي صديقي الافتراضي الذي أصبح جزءًا من عائلتي، نتحدث بشكل يومي عن الصحافة والأدب، عن العشق والسفر، نتحدث عن بلادنا الضائعة وعن ضياعنا كلاجئين في بلاد الأرض من شرقها، لشمالها، لغربها.

أخبرني أنّه يريد أن يجمعني بصديقاته، لقاءًا وديًا، افتراضيًا أيضًا، حاولت أن أتهرب بلطف ومع ذلك لم أرفض، ربّما لأنني ما زلت لم أتعلم مبدأ الرفض، أو لأنني لم أتعلم كلمة لا، وربّما أكثر لأنني أنثى والأنثى في بلادي لم يكن لديها رفاهية التعرف على "لا".

يخبرونها أن تقول نعم دائمًا، وعندما يجدون أنفسهم مضطرين لأن يعلموها قول "لا"، يُحرّمون عليها الموضوع، سواء بشكل ديني أو مجتمعي، {إما عيب وإما حرام} فهم يمنعونها من الاختلاط بالرجال لأنّهم غالبًا سيضطرون لجعلها تقول لحبّ رجل ما "لا".

وإن سمحوا لها بالاختلاط يُقنعونها أن الخضوع في القول جريمة، وألا تخضع في القول لا يعني أن تقول "لا"، يعني أن تُغير من نبرة صوتها أحيانًا، فتجعل صوتها أخشن، أو ألا تبتسم أبدًا، لتبقى ملامحها جادة بعيدة عن أي إغراء، هكذا: وباعتقادهم لن يقع في عشقها أحد، ولن تضطر أن تقول لمعجب "لا".

إذا بدأت تزورها العادة الشهرية تختبئ ولا تُشعر بها أحدًا فربّما يسألها أحد ما: لماذا تتألمين؟ لماذا لا تُصلين؟ لماذا لا تصومين؟

هل أتتك العادة الشهرية، بالمنطق يجب أن تقول "لا"، وباعتبار أن هذه الأمور النسوية {من العيب أن يعرفها الرجل، كي لا يقرف من المرأة ناقصة العقل والدين}، فنحاول أن نُبقيها سر النساء الأكبر، حتى في رمضان إذا اضطرت أن تشرب نقطة ماء وهي مفطرة تشربها بعيدًا عن العيون وكأنها تسرق.

لأنّ الرجال في بلادنا من كوكب آخر، فهم يعرفون عن دورة حياة الدودة إلى أن تصبح فراشة، ولا يعرفون شيئا عن دورة حياة المرأة التي ولدتهم وتولد أطفالهم.

وأيضًا عليها أن تمشي في الشارع مشية واثقة، كضابط في الجيش {آآح 2... آآح 2} فلا تُظهر مفاتن الخصر والخلفية، حتى كعب قدميها، في بعض المذاهب يمنع ظهوره

غالبًا ما يطلبونه حق في عرفهم، لكنهم لا يستطيعون ضبط إيقاع الرجل.

فالرجل في كتبهم وتاريخهم إنسان غبي لا يستطيع ضبط شهواته، بالإضافة لأنه ينقاد وراء المرأة دون تفكير، يتجلى ذلك من قصة أمنا حواء وكيف أغرت أبونا آدم وبسببها خرجنا كلّنا من الجنة، {وما زالت هذه العقدة في عقول وقلوب النساء إلى يومنا هذا}، إلى قصة هابيل وقابيل وكيف قتل الأخ أخاه بسبب رغبته بأنثى.

فالأنثى هي سبب الكوارث، والمتاعب، والجرائم.

لكن هذه القصص لا تهم وهذه الازدواجية يجب أن نتفهمها نحن النساء ويجب الامتثال لأوامر الرجل رغم غبائه وسهولة تلاعب النساء به كما تُظهرها بعض التفسيرات الدينية والقصص الشعبية.

إن اختار لها أبوها زوجًا لا تستطيع أن تقول "لا".

للأمانة هو يسألها ويطلب رأيها في العريس المتقدم لطلبها، ولكنها في الأصل لا تعرف كلمة "لا"، فكيف ستخبره أنّ الرجل لم يعجبها.

بعد أن تتزوج لا تستطيع أن تقول "لا" أيضًا!

إذا قالت لزوجها "لا" لممارسة الجنس هذه الليلة، حتى وهي متعبة منهكة أو أن رائحته مقززة لها، لعنتها الملائكة طوال الليل، {أي عقوبة نفسية أقسى من هذه العقوبة}؟

إن رغبت أن ينام معها دون رغبته ، فهي تخجل أن تقول له ذلك ، وإن قالت، ربّما يقول "لا " .. فهو يعرف كيف يقولها، عندها ستكون في موقف مخزٍ ومحزن، فهي غالبًا لا تستطيع اغتصابه!

إن قالت "لا" في وجهه لأي أمر، فهي امرأة ناشز وقد خرجت عن طاعته وحق له عدم الإنفاق عليها، وربّما يستطيع القاضي الحكم له بعدم إعطائها حقوق طلاقها إذا طلقها لنشوزها.

هكذا كلمة "لا" غير موجودة في قاموس البنات في بلادي.

وأنا يا صديقي مثلي مثل معظم إناث بلادي لا أقول "لا".

لا أقول "لا" لمعجب، لهذا يجب أن أكون أكثر حرصًا على مواقع التواصل فلا أترك لنفسي فرصة أن أكتب تعليقًا فيه نكتة، أو فيه حس أنثوي، لأن الرجل الذي سيقرأه سيقع في غرامي، وإن وقع في غرامي لن أستطيع أن أقول له "لا"، وربّما أخضع في القول له عندها، وربّما يكون سارقًا أو مجرمًا وأنا ضحيته، أترى يا صديقي كم نحن البنات ضعيفات ومخدوعات.

{وأنت عزيزي القارئ عندما تقرأ مقالي ربّما وأنت تعرفني ستقول لي: إيمان أنت تقولين لا وتخضعين في القول فكيف تعلمت قول لا، أم أنّك أستغفر الله تتجاوبين مع كلّ المعجبين؟ وستغمزني بعينك اليمنى عندها ستُذيب قلبي حبًا وشغفًا، لأن غمزتك ستنزل في صدري من الطرف الأيسر مباشرة}.

مع أنّني الآن أتفهم خوفهم على بناتهم في أوروبا فهم لا يعرفون ماذا يقولون لهن أو عنهن، مرة يقولون لهن أنتن حاملات لواء الاسلام في الغرب فعليكن أن تبقين جادات منضبطات باللباس الشرعي، تقرن في بيوتكن.

ومرة يتهمونهن بالانحراف والرذيلة... ومرة ومرة... فهم يعلمون ما اقترفت أيديهم وأنّه لا يوجد في قواميس بناتهن كلمة "لا". فيعملون على إغراقهن بمعركة "جلد الذات"، التي تنتهي إما بالجنون والانفلات الذي يُخلف أمراض نفسية وجنسية، أو بالانكماش على أنفسهن والخوف من الآخر بشكل مرضي أيضًا، يحتاج لعلاج حقيقي، وفي الحالتين ضياع البنات أنفسهن وعائلاتهن، إن كن متزوجات.

أما أنت يا صديقي، فأنا أُصدق أنّك خرجت من كهف ذاك التفكير وبدأت تعي ما تستطيع النساء فعله، ومدى قوتهن، وكيف أنّهن كسرن القواميس القديمة، مع أنّهن تألمن كثيرًا عند كسرها.

لكن لا يمكن لهنّ أن يعشن ضمن هذه المتاهة من الانفصام بالأوامر والطلبات، خاصة بعد أن التقيت صديقاتك، لقاءا افتراضيًا، وعرفت كم هنّ متعبات بإزالة الصدأ، وكسر الجليد عن عقولهن وألسنتهن وتعلمهن قول "لا".

فكلمة "لا" إله يتربع عرش عقولهن، ومع ذلك لا يستطعن لمسه.

وأنّك بدأت تفكر بشكل مختلف، نظرتك لنساء بلدك في أوروبا مختلفة عن الآخرين.

لأكون أمينة في مشاعري: أجد بين عيونك وفي داخلك نظرة اتهام، تحاول أن تخفيها أحيانًا، لكنك ما زلت تستنكر خروج المرأة

اليومي من المنزل، مع أنّك تعرف أنّ أغلبهن يعشن دور الرجل والمرأة معًا، فالمرأة هنا تحمل على كاهلها ما لا تستطيع جبال حمله، كأي امرأة تسعى على نفسها وأطفالها سواء هنا أو في البلاد.

بالإضافة للفقد والاغتراب والمسؤوليات التي لم تخطر يومًا في بالها، والحكم عليها بأن تعمل كل شيء بمفردها بالإضافة لقولها لكلّ احتياجاتها الطبيعية "لا".

أما أنا فلا ألومك إلاّ على ما أسمعه منك حقيقة.

مع أنّ الحقيقة يا صديقي صعبة ومتغيرة حسب الحاجة وحسب الظرف، خاصة عندما تكون الأمور متعلقة بالآخر.

حسبك أنّك لم تر الآخر ولا مرة حقيقة، وهنا تكمن الحقيقة أنّ لا حقيقة ثابتة.

أعرف يا صديقي أنّك لا تعرف عني إلا بقدر ما أُنير أنا لك من حياتي ومن شخصيتي، فالضوء الذي أسقطه، أسقطه غالًبا على مساحة صغيرة تكون كشعاع شمس واحد، مساحة أحبها وأريد أن تراها، حتى إن حاولت أن تدخل منطقتي المعتمة، غالبًا لن تنجح، فمساحة الرؤية خاصتك صغيرة، تتضاءل وتتوسع حسبما أريدها لك.

وأنا متيقنة أنّ مساحة رؤيتي التي تسمح لي برؤيتك فيها مساحة صغيرة

ومتضائلة حسبما ترغب أنت وحسب حاجتك لتواصلي واستمراري معك.

أعي ذلك تمامًا، ومع ذلك أحاول أن أغمض عيني وأقول أنّني أعرفك، كما تغمض النساء أعينهن عن معرفتهن لكلمة "لا" منذ زمن بعيد، ومحاولتهن إيهام الجميع أنّهنّ لا يعرفنها.