أهلنا وحكاية القطيع*
قاسيون ـ إيمان مسلماني
اتَّصلتْ بي صديقة قديمة بعدَ فترةٍ من الانقطاع، وقدْ كانَ واضحًا تخوُّفُها من الحديث، بعدَ عِدَّةِ جُمْلٍ من المجاملات بدأَ لسانُها يتلعثمُ، بكلمات مرتجفة، وصوتٍ مُتقطِّعٍ بغصاتٍ متتاليةٍ كمن يوشكُ عَلَى البكاءِ، بدأتْ تحكي لي أحوالَها في بلدٍ من بلادِ الغربِ، أقصى بقاعِ الأرضِ التي لمْ تكنْ تعرفُ عنهُ شيئًا من قبلِ أنْ تقِفَ قدماها على أرضهِ.
بكلماتٍ حزينةٍ مُكتئبةٍ بسببِ الطقسِ الباردِ في بلدِها الجديدِ، وشيءٍ من طقسِ مجتمعِها البائدِ.
قالتْ لي: "وصلتُ إِلى هُنا، ولم أنتهِ من مشاكلِ إخوتي، وأخواتي، ما زالوا يرجمونني بحقدِهم، وبكلماتِهم الجارحةِ، يحاولون إحراجي، جلدي الدائم وتذكيري بتاريخي، وتاريخهم، بفقري، وفقرهم، وأنا الَّتي ما زلتُ بعدَ كلِّ هذا العمر، وقدْ تجاوزتُ الخمسينَ بقليل، ما زلتُ أحاولُ الوصولَ إِلى نقطةِ الصِّفر في هذا البلدِ الجديدِ، وما أجدني إِلَّا أَنَّني بعيدة جدًا عن نقطة الصِّفر، فلا لغةً أستطيعُ إِتقانَها بشكلٍ مقبول، ولا عملاً لائقًا أستطيعُ البدايةَ فيهِ، ولا أطفالَ أعرفُ كيف أقدِّمُهم لمجتمعِهم، ومجتمعي المستجد، كما أحبُّ، وأقدِّرُ، ولا حياة أسريَّة أستطيعُ التَّعوُّدَ على تغيراتِها، وانتكاساتِها اليوميَّة، وما زال الآخرون وهم أقربُ المقربينَ يحاولون جري إِلى الماضي وآلامِه."
لطالما سمعنا أنَّ الغربَ يدعمُ البليدَ حتَّى يجعلَهُ ذكيًّا.
وأنَّ الشَّرقَ يُعاقبُ المُتألِّقَ، المجتهدَ حتَّى يفتكَ بهِ.
وإِنْ كانتِ الفكرةُ مطروحةً، والتَّجاربُ المُعاشةُ أكثرَ إيلامًا، ولكن لا يزالُ في قلبي شيءٌ من شكٍّ، وأحاولُ أنْ أبحثَ عن ملجأ، عن اعتقادٍ يغيِّرُ تلكَ المأساة التي نعيشُها في الشَّرقِ، عن سببٍ يُحوِّلُ كلَّ أعمالِنا، وتميُّزَنا إِلى حلينِ لا ثالثَ لهما، إِمَّا أنْ يصبحَ المُتميِّزُ مثلهُ مثل أهلِهِ كلِّهم، فتخبو شعلةُ فكرهِ، ليتقبلوه، كما هم، دونَ تغيير.
أو أنْ يهجرَهم، ويبتعدَ عنهم ما استطاعَ إِلى ذلكَ سبيلاً.
لا يستطيعُ الأخُ أنْ يقبلَ نجاحَ أخيهِ في مجالِ الدِّراسة مثلاً، وهو غيرُ مُتعلِّمٍ، يميلُ إِلى التكاسلِ، واللهو شبهِ الدَّائمِ، فإِنْ نجحَ أخوهُ فهذا يعني أنَّ المشكلةَ ليستْ في العائِلةِ، المشكلةُ فيهِ شخصيًّا.
غالبًا هو لا يستطيعُ النَّظرَ إِلى كميةِ التَّعبِ، والبذلِ الَّتي احتاجها أخوه، ليصبحَ على ما هو عليهِ.
لا يستطيعُ ببساطةٍ أنْ يقبلَ التَّطوُّرَ الاقتصاديَّ لابنِ جيرانِهِ الذي تربَّى معهُ طيلةَ الوقتِ في نفسِ الحيِّ، وفي نفسِ البيئةِ الفقيرةِ، أو المتوسطةِ، فتراهُ يومًا ينعتُهُ بالبخلِ، ويومًا يقولُ عنهُ قاطعًا لرحمهِ، ومرَّةً أخرى يقول عنه حرامي أو مُرتشي، أو له معاملاتٌ تجاريَّةٌ غيرُ شريفةٍ، وربَّما يَصلُ بهِ الحالُ ليقولَ عنَهُ أَنَّهُ يغسلُ أموالاً.
لا تستطيعُ الأختُ، أو القريبةُ تقبُّلَ فكرةِ أَنَّ ابنةَ بيئتِها قدْ استطاعتْ تحصيلَ شهادةِ دكتوراه مثلاً في مجالٍ ما، أو أصبحتْ فنانةً مشهورةً أو كاتبةً، أو حتَّى مطربة.
وهي الأمُّ، وصاحبةُ الأسرةِ، كيفَ استطاعتْ فعلَ كلِّ ذلكَ؟
إنْ كانتِ الأختُ الأولى مُتصالحةً معَ ذاتِها، ومُقتنعةً أنَّ أختَها تعبت على نفسِها، عملتْ، وثابرتْ، فنجحتْ.
فافتخرتِ الأختُ بأختِها أمامَ الآخرينَ، وما تفعلُهُ مِنْ بذلٍ، ونجاحٍ.
وجدت المجتمعَ يُسلِّطُ لسانَهُ، وسوطَهُ اتِّجاهَ تلكَ الأختِ الطبيعية، التي تريدُ حياةً هادئةً وهانئةً، حياةً بسيطةً تختارُها دونَ إرغامٍ أو رغبةٍ منها بالتعب الزائد، ببساطة هي لا ترغب بحمل أكثر من بطيخةٍ في يدٍ واحدةٍ، وهذا من أبسطِ حقوقِها في الواقع.
لكنَّها تجدُ نفسَها أمامَ مجتمعٍ لا يرحمُ، تربى على جلدِ الذاتِ والآخر، فأصبح الحُر عبدًا لأفكارِ المجتمع السيئةِ منها، قبل الجيدة.
فيقول لها البعض، وربَّما يكونُ الأبوانِ منَ القائلينَ، بوقاحةِ المُتكلِّمِ وجبروته لماذا لا تكونينَ مثلَ أختك فلانة؟ هل أنتِ أقلُّ منها؟
هل هي أذكى منكِ؟ هل زوجُها أفضلُ من زوجكِ؟
ومن هذه الأسئلةِ الَّتي تشعلُ نارَ الغيرةِ، والحسدِ في عقولِ، وقلوبِ البعضِ منهنَّ.
تبحثُ روحُها عن خِطَّةِ دفاعٍ عن أناتها، حتَّى وإِنْ لمْ تكنْ تعي ما تقول.
فمرَّةً تقولُ عن بيتِ أختِها غير مرتَّب، وهي مقتنعةٌ أنَّ كلَّ البيوتِ هكذا.
مرَّةً تحكي عن إهمالِها لزوجِها، وأطفالِها، ويكونُ الكلامُ مُتَخيَّلاً، عبارة عن سيناريو تكتبُهُ داخلَ عقلِها.
تقتنعُ هي نفسها بذلك السيناريو، ويصبحُ جزءًا من حياتها، وما ترسمُهُ عن أختِها، أو قريبتها.
غالباً ما تكونُ هذهِ أوَّلَ ردةِ فعلٍ دفاعيَّةٍ لها، تدافعُ فيها عن تكاسلِها، وعدمِ استطاعتِها إكمال تجربتها الدراسيَّة مثلاً.
كي لا تظهرَ أنَّها أقل.
فالمجتمعُ الشَّرقيُّ ليسَ بإمكانهِ أَنْ يأخذَ كلَّ فردٍ، ويحاكيهِ على أَنَّهُ إِنسانٌ واحدٌ متكاملٌ، لهُ قدراتُهُ، وإمكانياتُه، له أحلامُهُ، طموحاتُهُ، عطاءاتُهُ.
فتراهُ يجرُّ الواحدَ جرًّا لأن يبقى ضمنَ الأسوارِ التي يصنعُها لنفسهِ وللآخرِ، فلا يَحِقُّ لأحدٍ القفزَ فوقَ سورِ التخلُّفِ، أو الفقرِ، أو سورِ القطيعِ، وإِنْ حاولَ القفزَ يومًا تكالبتْ عليهِ الألسنُ، والأذرعُ، تحاولُ شدَّه ما استطاعتْ إلى الأسفلِ، وإِنْ خضعَ، وتراجعَ بعدَ أنْ قفزَ ذلكَ السُّور، لن يقبلوا بوضعهِ تحتَ الأقدامِ فحسب، بل سيدوسوهُ، ويدوسوه، حتَّى يصلَ القاعَ المعتمَ، ويُطفئوا فيهِ أيَّ نورٍ يحاولُ أنْ يخرجَ منهُ.