الطفل وازدواجية النفس
قاسيون ـ مروان الحريري
من طبيعة الإنسان أن يطمح لنفس مثالية تميزه عن الآخرين، بالنضوج والحكمة.
وكثيرون هم الذين يعتقدون ان نفوسهم مثالية، ولكن لدى تعرضهم إلى عوائق وهموم ومصاعب -حتى في علاقاتهم الاجتماعية- يفقدون مثاليتهم ونضوجهم والسيطرة على نفوسهم ويصبحون كالصبية.مما يشكك في وحدة نفوسهم وثباتها!!!
الحقيقة هي أن الإنسان ازدواجي النفس؛ ذات نفسين: نفس حقيقية، ونفس مثالية يطمح لها.
النفس الحقيقية هي الطفل الذي يرافقه منذ الطفولة ولم ينضج بعد، وما زال يسكن في صميم نفسه ويديرها وفقاً لمزاجيته، العصبي حيناً والخائف حيناً آخر.
النفس الحقيقية مبرمجة ومسيرة بيولوجياً، بالعقل الحسي ضمن البيئة الاجتماعية، والتقاليد والعادات التي يعيش فيها.
اما النفس المثالية تختلف لدى كل فرد.
النفس المثاليةرومنطيقية، تبالغ بالحقائق، تجمّل القبيح،
ولا تعترف بالمستحيل، يطمح لها الإنسان لان في داخله صوت يناديه للإبداع، لكنه لا يعرف انه صوت الطفل النائم بداخله؛ الأبداع ينتمي إلى الطفل.
سأل الباحثون مئة من الفلاسفة والكتاب، من أين يأتون بافكارهم الخلاقة والغنية وكتاباتهم الرائعة؟
الأكثرية منهم قالوا :عندما يكتبون يستعيرون خيال الطفل الموجود في دواخلهم.
قال الفيلسوف الإنساني الفرنسي جان جاك روسو عن الطفل :(إنه نبيل متوحش).
نبيل لانه يملك عقلاً مفكراً،وخلاقاً ولا نهاية لخياله؛ ووحش لانه غير مهذب، فوضوي، متطرف في حسه، ولا يعرف المسؤولية.
كل منا يحمل طفلاً في داخله يرافقه منذ الصغر، وعندما ننضج نتبرأ منه، لأنه يصبح معيبأَ أمام المجتمع، يجب علينا دفنه، والتخلص منه، ولكن هذا الطفل، يظهر في لحظات الغضب، والخوف، والحقد، وظهور المصاعب، والتصادم مع الآخرين.
الطفل فينا يستمر بالبكاء والنحيب لأننا هجرناه واهملناه ولم نعطه فرصة لينضج.
هكذا هو الطفل ،عندما يولد يصرخ، وبصراحه يقول لك اطعمني، ضعني في حضنك، وامسح الأوساخ عن مؤخرتي لكي اتوقف عن البكاء، وعندما يكبر يستمر قي استعمال هذا الأسلوب (الصراخ) ليحصل على ما يريده. نحن نظن انه لا يفهم ولكن في الحقيقة هو أذكى مما نتصور، لأنه يستعمل ما لديه من سلاح (الصراخ) ونحن نضجر منه ونعتبره ضعيفاً عالة علينا، نسكته، ونغلق عليه الباب لهذا السبب، كي لا يراه الآخرون في ملامحنا وفي لغتنا الصبيانية وفي تصرفاتنا العفوية، خوفاً من معاملتنا معاملة الأطفال. وفي هذه الحالة يتوقف الطفل عن نموه السيكولوجي ويبقى يتيماً في داخلنا.
الطفل لدى اقصائه يعود متقمصاً بالنفس المثالية ليموّه وجوده الغير مقبول، بهدف تحرير نفسه ويتابع نموه الذي حرم منه.
النفس المثالية تجذبنا باللاوعي لأنها هي الطفل ذاته، وهذا يساعدنا للوصول إلى النفس الحقيقية.
وما يدفعنا الي النفس المثالية لأنها تجعلنا نرى الأمور من خلال رؤية مختلفة، َخارجة عن المألوف في المجتمع.
لذلك تعطينا حرية التفكير المطلق لان النفس المثالية هدفها ترميم النفس الحقيقية، ولأنها منفتحة كالطفل وواسعة الافق،
خلاقة، ترى النجوم والبحر والسماء وعواصف عاطفية إلى أبعد آفاق عالم الحس.
الخطر هنا اذا ضعنا فيها ندخل في حالة خداع للنفس قد تؤدي إلى الجنون الحقيقي. لماذا؟ لأن سعة العقل تستوعب نفس واحدة وليس لازدواجية النفس. وعندما يركز الشخص كل قدراته العقلية في النفس المثالية، وتجاهل نفسه الحقيقية، يتوه عن الواقع وتكون النتيجة في معظم الأحيان إصابته بمرض نفسي كالشيزوفرانيا( schizophrenia) او فصام النفس الهذياني.
اما اذا كانت النفس المثالية مبنية على أسس وواقع النفس الحقيقية والاعتراف بالطفل المتيتم الذي يتوق إلى العناق والحب والشفقة والعطف ويصغي لقصته ويبكي معه ويشعر بألمه، وعندها تذوب ازدواجيته في نفس واحده راقية، نزيهة، فعالة، خلاقة.؛ جذورها في عمق الواقع.
جميل أن يحلم الإنسان بنفس مثالية، يرتقي من خلالها الي منزلة الإنسان المسؤول، الصبور، الخلاق،يتمتع بقمة الأخلاق، ولا يفقد السيطرة على نفسه، ويعرف حدوده، ويعامل الآخرين معاملة انسانية.
ولكن عليه أولاً ان يجد طفله ويعطيه الأمان والحب، ويطلق سراحه كي ينضجا معاً ..