ماذا تعرف عن جهاز الانذار (الإنساني والحيواني) وكيف يؤثر على علاقاتنا الاجتماعية ..؟ *
قاسيون ـ مروان الحريري
إن من أكبر مصائب الكيان الأنساني وأكثرها فجيعة هو عدم وجود انسجام وتناغم إجتماعي بين البشر، وهذه التعاسة نعاني منها ونشعر بها في حياتنا اليومية، بين أفراد العائلة الواحدة وبين الأصدقاء، المجموعات، القبائل، العشائر والشعوب، وأبشع وجوه هذا النفور الإجتماعي يكون في الخلافات الحادة بين الأقارب وبين الازواج وفي المؤسسات والشركات بين الموظفين والعمال وأيضاً بين السياسيين - لا سيما في ظاهرة العنصرية والفاشية والدكتاتورية والحروب والجرائم-وفي السجون ومصحات الأمراض العقلية والعصبية!!!
والسؤال الذي يطرح هنا: لماذا لا يستطيع الإنسان أن ينسجم مع بني جنسه؟
وهل هناك علاج لهذه المشكلة الكأداء؟ وكيف نحصل علي أجوبة شافية؟ وعلى علاج يوفر لنا انسجاماً اجتماعياً للعيش السلمي وتخفيف الآلام.
كي نصل إلى فهم علمي صحيح وحديث لهذه المشكلة علينا أن نعود إلى ظروف الجنس البشري.
منذ اوائل حقبات التاريخ والعصور الأولى، يوم كان الإنسان يعيش في الكهوف ويقاوم عوامل الطبيعة ووحشية الحياة التي كانت تهدد وجوده في كل لحظة، كان يتصارع مع أخيه الإنسان ويتنافس معه ليبقى على قيد الحياة.
وقبل الشروع في الشرح، أود أن اسرد بعض الأمثلة الهامة عن طباع الحيوانات، بغية توضيح اسباب سلوكها، ومن ثم نعود إلى موضوع الأساسي "أهمية نزعة البقاء لدى الإنسان" .
هل لاحظت أن غالبية الحيوانات تملك جهاز واعضاء للدفاع عن نفسها؟
كلنا يعرف ان الحيوانات تدافع عن نفسها من خلال اللجوء إلى الشراسة؛ اما باستعمال انيابها او مخالبها او الاثنين معاً.
وبعض الحيوانات الأخرى تستعمل السموم القاتلة، أو التلّون والتمويه والتخفي، وكثير منهم يتجنب الخطر بالهروب والجري السريع.
السؤال هنا : لماذا يدافع الحيوان عن نفسه؟ وما هو سبب خوفه؟
وهل يعرف الحيوان ماهية حياته؟ وكيف يدرك ذلك؟
إن الحيوان يدافع عن نفسه ويحافظ على حياته دون وعي منه وذلك بطريقة دينامية بيولوجية بحتة.
لو نظرنا إلى الدماغ الحيواني لوجدنا فيه جزءً بمثابة رادار لاقط او بالأحرى جهاز إنذار يستنفر آلياً عند أي خطر يتعرض له، سواء كان فأراً صغيراً ام فيلاً ضخماً، وهذا الجهاز لا يتطلب الذكاء او اي نوع من انواع الوعي حتى يعمل؛
ولقد اكتشفت البحوث العلمية مؤخراً هذه الظاهرة في الإنسان أيضاً واثبتت - هذه الأبحاث-وجودها على الشكل التالي: لقد شارك الآلاف من المتطوعين لإجراء مسح لادمغتهم بواسطة الرنين المغناطيسي IRM وذلك من خلال مشاهدة التلفزيون لأحداث تثير الخوف او المشاعر او تثير الغضب او من خلال مشاهدة صور بورنوغرافية(pornographique)
وقد لاحظ الباحثون ان كل هذه المشاهدات ادت إلى إضاءة نفس النقطة في الجزء الاسفل من الدماغ البشري كما في الدماغ الحيواني. وبمستويات متفاوتة ومختلفة.
حيث استنتج هؤلاء الباحثون ان هذا الجزء من الدماغ او هذه النقطة هي عبارة عن جهاز إنذار او هو الرادار المسؤول عن كل ما يتعلق ببقاء الإنسان؛ حيث يحفز لدى الخوف والانفعال.
والشيء الذي اذهلهم انهم قاموا بنفس التجربة على الحيوانات(الفأرة، الكلب، الكونغورو، والشمبانزي)
ولاحظوا أيضاً ان نفس الموقع في الجزء الاسفل من الحيوانات اضيء عندما شاهدوا المشاهد التي تثير مخاوفهم وانفعالاتهم.
والاستنتاج الوحيد الذي خرجوا به هو أن هذه المخلوقات (الإنسان والحيوان) مزودة بجهاز إنذار بيولوجي آلي غير ارادي يستنفر او يتأهب لمجابهة الخطر الذي قد يؤدي إلى خسارة، فقدان،اذى او موت......
وقد عمل على هذه الأبحاث العالم بسلوك الحيوانات (Jack Panksepp) وعلى مدى ثلاثين عاماً، كما أجرى احد علماء بيولوجيا الدماغ (Antonio Damasio) تجارب عديدة وتوصل إلى نفس الاستنتاج ان في دماغ الإنسان وفي الجزء الاسفل نقطة عبارة عن رادار او جرس إنذار تتحفز لدى تعرض الإنسان لأي خطر.
اذاً الدفاع عن النفس هو عامل خارج الوعي ولا يخضع للارادة وهو بمثابة حارس للحياة ويضمن البقاء.
كل حادث او تجربة سلبية قد تساهم في اقترابنا من الموت والفناء
كالفقر، الحروب، الكوارث الطبيعية، أمراض الشيخوخة.
او التعرض للاضطهاد، الهموم، الحزن، الخوف،وحياة العوز،أو أن نكون ضحية التنمر والتنافر وعدم الشعور بالأمان وفقدان حب الآخرين لنا وحبنا للآخرين.
كل هذه التجارب السلبية تؤدي لاستنفار هذا الرادار حيث ينذر بالخطر على حياتنا بشكل اوتوماتيكي تلقائي دون أي تدخل إرادي منا.
مشاعرنا هي نتيجة استنفار هذا الرادار، لا يستطيع الإنسان تغيير عمل هذا الجهاز ولولاه لانقرض الجنس البشري، لكننا نستطيع برمجة مشاعرنا،والسيطرة عليها بواسطة التفكير المنطقي والأنضباط الأخلاقي.
وذلك بمراقبة ردات فعل الآخرين وان نعي ان ردات الفعل هذه هي غير إرادية وانها غير موجهة ضدنا شخصياً وهي لا تنم عن حقد او كره او تحقير بل السبب هو تجاوب الشخص مع الانذار وبالتالي علينا أن نطمئنه ونجعله يشعر بالامان والتخفيف من مشاعره السلبية واعادة الانسجام معه
بذلك اكون قد خففت عن نفسي الصدام معه وما ينتج عنه من افراز هرمونات مضرة بالصحة.(كورتيزول)
إن الأشخاص الذين يعيشون حياة صدامية ويتشاجرون مع الآخرين لمجرد الاختلاف بالرأي او بالعقيدة او بأسلوب العيش
يعيشون بحالة قلق والم مستمر وربما يلجأ بعضهم لتعاطي المخدرات او معاقرة الخمرة او النوم المستمر وعدم مواجهة الناس لتخفيف آلامهم، اما القسم الآخر منهم يعتنق اسلوب العنف والحقد والعداوة حتى يصل بعضهم إلى حد ازهاق الارواح(القتل).
إن لدى الإنسان أعظم معجزة في الوجود الا وهو العقل، القادر على تهذيب السلوك الأنساني، وذلك باعترافة بوجود نزعة بيولوجية للحفاظ على بقاءه(الرادار) وهي نزعة خارجة عن وعيه وعن سيطرته، ويتفهم كل ردود الأفعال الصادرة من الآخرين والتي هي استجابة لهذا الانذار اللارادي.
مثلاً؛ أفلاطون علم تلاميذه وسيلة فعالة لاكتشاف الأسباب والأحداث ومعرفة الذات وسلوك الفرد.
الحوار الأفلاطوني يبدأ بأسألة تبدأ ولا تنتهي إلى أن يصل إلى سؤال ليس له جواب؛ (ماذا، من، أين، كم، لِمَ، ومتى) وكلما توصل المحاور مع نفسه إلى جواب يحول جوابه إلى سؤال جديد، ليجد جواباً منطقياً حتى يصل بالنهاية إلى باطن الأمور ويعرف السبب لكل حدث.
عندما نغضب او نخاف او نكتئب او ننزعج نفتش عن الأسباب خارج نفوسنا؛ فنتهم الآخرين نلومهم ونعاتبهم ونتشاجر معهم.
إن نزعة البقاء وجهاز الانذار هما المسؤلان عن أختلافنا مع الأخرين، وانسجامنا معهم.
اذا نظرنا للواقع من هذا المنظار نستطيع أن نفهم اننا جميعاً نتشارك في هذه العلة البيولوجية ويجب أن نعي بوجودنا جميعاً في هذا الزورق، وجميعناً خائفون على بقاءنا من خطر الأمواج الهوجاء، وان انسجامنا مع المسافرين قد ينسينا الخوف والقلق ويحفظ سلامة الجميع .