سنُغرقكم بالتفاصيل…
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px"><strong>“سنغرقكم بالتفاصيل”… عبارة شهيرة قالها وزير خارجية النظام السوري عام 2012 عند تقديم مبادرة الجامعة العربية الأولى، ونفّذها حرفياً في ما بعد، حيث أغرق المجتمع الدولي طوال ثلاث سنوات بالتفاصيل لكسب الوقت وتعطيل أي عملية سياسية، فاخترع أموراً ثانوية وأحداثاً بعيدة عن جوهر أسباب الثورة ودوافعها، فشلّ بإستراتيجيته هذه كل المبادرات العربية والإقليمية والدولية التي كان يمكن لها إنقاذ سورية ووقف سيل الدم والدمار.</strong></span></sup></span></p>
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px"><strong>بعد نحو عشرة أشهر من انطلاق الثورة، قدّمت الجامعة العربية مبادرة وأرسلت بعثة لمراقبة تنفيذ النظام السوري لالتزام ينبغي بموجبه وقف الحملة العسكرية العنيفة التي شنها ضد المحتجين السلميين، فبدأ النظام لعبته، وراح يُفسّر مهمة اللجنة على هواه، واحتال عليها وتذاكى، وقيّد حركتها وراقبها وجعلها تلتقي بمؤيدين على أنهم معارضون، وحدد لها المسموح والممنوع وفق أهوائه، وأدخلهم بتفاصيل أنستها صلب مهمتها التي سرعان ما فشلت. كذلك فشلت مبادرة المبعوث الأممي الأسبق كوفي أنان ذات البنود الستة والتي دعت السلطة السورية لوقف العنف وإيجاد حل سياسي للأزمة، وعلى الرغم من أنها لقيت تأييداً من كافة الأطراف، النظام والمعارضة المسلحة وغير المسلحة والمجتمع الدولي، إلا أنها فشلت لأن النظام أغرق الجميع بالتفاصيل، وبدأ يضع العصي بعجلات هذه المبادرة، وُفسّر بنودها الستة لغوياً ثم نحوياً واجتماعياً وسياسياً، واقترح مبادئ لا علاقة لها بالنص الأصلي ولا بجوهر المطلوب، وأزاغ عيون المجتمع الدولي وأدخله بمتاهات، فدفن المبادرة في مهدها.</strong></span></sup></span></p>
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px"><strong>تعامل النظام السوري بنفس “التذاكي” مع خطة الأخضر الإبراهيمي، التي أنتجت للسوريين بيان جنيف، فقام هذا النظام بتفسير البيان وفق أهوائه ومصالحه، وزاد غموضها غموضاً، وأدخل العالم بمتاهة تفاصيل الكلمات ومعاني الجمل وتركيبها وتقديم هذه الجملة عن تلك، ثم قدّم بنوداً على بنود، وبدأ “فطاحلته” اللغويون يُفسرون ويُعرّفون معنى هيئة الحكم الانتقالية، ووضعوا عشرات التفسيرات التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، واجتهد سياسيوه في تفسير الفرق بين أن تكون هذه الهيئة “كاملة الصلاحيات” و”ذات صلاحيات كاملة”، واستنتج جهابذته أن جوهر المبادرة هو مكافحة الإرهاب لا تغيير النظام، على الرغم من أن تنظيم الدولة الإسلامية لم يكن موجوداً بعد في ذلك الوقت.</strong></span></sup></span></p>
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px"><strong>بعيد إقرار المجتمع الدولي بيان فيينا قبل أشهر، والذي وافق عليه الجميع مُرغمون، واصل النظام السوري هوايته التي يبرع بها، وبدأ يُفسّر البيان بطريقته، وقرر أن معنى قيادة السوريين للتغيير تعني قيادة الأسد له، والانتخابات التي سيصل إليها السوريون هي انتخابات برلمانية لا رئاسية، وأن هيئة الحكم الانتقالية تعني إضافة عدد من الوزراء من المعارضة للحكومة الحالية، وبدأ بإغراق العالم بالتفاصيل والتفاسير كعادته.</strong></span></sup></span></p>
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px"><strong>هناك قناعة على نطاق واسع لدى السوريين بأن النظام سيتعامل بنفس الطريقة مع القرار الأممي 2254، الذي يدعو لوقف إطلاق النار وتسهيل عمل الإغاثة قبل البدء بمفاوضات لتشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات تضع دستوراً وتُجري انتخابات بوقت محدد، وسيُغرق المعارضة والمجتمع الدولي ـ فور المباشرة بالمفاوضات ـ بمتاهة تحديد معنى وقف إطلاق النار، وسيُقدّم رئيسه ومسؤوليه محاضرات ومقابلات لتعريفه سياسياً وعسكرياً، ولغوياً ونحوياً وفقهياً، وسينتقل لتحديد مجاله وآلياته، وأي الأسلحة يشمل، من يضمنه ومن يراقبه، ومن أين سيبدأ ومتى سينتهي، وما هي الروادع والعقوبات، ومن هي الجماعات الإرهابية المستثناة، وهذه بحد ذاتها بحر من المتاهات والتفاصيل، وما هي حدود مسؤولية الدولة ومسؤولية الجيش وقوات الأمن، وسيبحث عن تفاصيل تُسهّل على ميليشياته خرق الهدنة، وستمضي شهوراً عديدة دون أن يتقدم التفاوض قيد أنملة أبعد من المادة الأولى المعنية بوقف إطلاق النار الذي لن يُنفّذ عملياً، لا الآن ولا خلال التفاوض أو بعده.</strong></span></sup></span></p>
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px"><strong>سيُمارس النظام السوري هوايته المفضلة، الباطنية السياسية والاحتيال الدبلوماسي، المواربة الأخلاقية واللامعقول الفكري و”التذاكي” العقيم، ليُعرقل أي شيء وكل شيء، ولن يخرج السوريون أو المجتمع الدولي من المفاوضات إلا بكفي حنين، وستفشل المفاوضات كما سابقاتها ولاحقاتها.</strong></span></sup></span></p>
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px"><strong>كل ما سبق ليس تشاؤماً أو نفياً لوجود حل عادل للأزمة السورية، لكنّه تأكيد على أن النظام السوري سيواجه كل شيء بلعبة “الإغراق بالتفاصيل” التي يُتقنها كل نصابي العالم، وعليه فإن أي خطة يُراد أن يُكتب لها النجاح يجب أن تتضمن بدقة التفاصيل كلها، وأن تكون غير قابلة للتأويل، وأن لا تترك لأحد تفصيلاً ليجتهد به، والأهم أن تكون مُلزمة وتُلوّح بالعصا لكل من يحاول تفسير المُفسّر والتذاكي على حساب دماء مئات آلاف الضحايا وملايين المشردين.</strong></span></sup></span></p>
<p dir="RTL" style="text-align:justify"> </p>
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px"><strong>باسل العودات: المدن</strong></span></sup></span></p>