دين السيستاني... وفساد أدعياء الدين...!
بقلم: فخري كريم
كلما واجهتُ سؤالاً يتعلق بالضمير، لم أتردد في الإفصاح عن مكنونات ضميري، فالأديان والعقائد، وتجلياتهما التي يتجاذبهما الإيمان؛ والشك، قضية ضميرٍ لا يجوز التسامح مع من يريد التطفل على مكنوناته، وإطفاء جذوة الحرية في مساحاته المضيئة، المفتوحة على إعمال الفكر والجدل على مشارف خطوط التماس بين القناعات المكتسبة، وحيرة العقل أمام إعجاز الكون وتصميمه العظيم .
لم يكن أمامي، وأنا أواجه سؤال الضمير سوى القول: أنا لا أدعي الإيمان المكتسب الذي لا يقوى على الرسوخ في مواجهة إعجاز العقل؛ وتصميم الكون اللامتناهي، ولستُ في وارد المفاخرة بالإلحاد والدعوة له، فالإيمان والإلحاد، كلاهما يتحركان على قاعدة من منظومة معرفة موسوعية، لا ينالها كل طالب كسول، يكتفي بالسؤال ليرد بجوابٍ مستلٍ لا يقين يسنده؛ أو بسؤالٍ لا يستقيم له معنىً.
وأكثر الأسئلة التباساً وإثارة للكراهية، تلك التي تجعل من الدين والعقيدة لبوساً للسياسة ورجالاتها، وسُتراً لمباذلها اليومية، وانحيازاتها لأفرادٍ وجماعاتٍ لا حصانة أخلاقية؛ أو قيمية أو ارتباطاً إيمانيا عميقٍاً بهما، مبرأة من كل عيبٍ؛ أو ادعاءٍ أو انسلاخٍ من مطامع دنيوية ...
في التاريخ الإنساني لحظاتٍ مشرقة من الانفتاح والتفاعل بين رجالات الدين، كل الأديان ومرجعياتها ، وبين مصائر الناس والأنظمة الاستبدادية والطغاة. واللحظات المشرقة في تاريخنا الوطني العراقي، ودور رجالات الدين ومرجعية النجف فيها، كثيرة، قد تشكل ثورة العشرين في أوائل القرن الماضي المَعلَم الأبرز فيه، والأكثر رسوخاً في الوعي الجمعي للعراقيين.
واليوم تستعيد اللحظة بهاءها، ويسترجع الناس الأمل في أن تتكامل ملامح المشهد السياسي الشعبي، وانطلاقة الحركة الاحتجاجية - المطلبية بمضامينها السياسية، مع صعود الدور المتفاعل الداعم والمحرك للمرجعية الدينية، ودور السيد السيستاني في بلورتها...
قد يحاول البعض إثارة شكوكٍ وهواجس، ارتباطاً بتسويق كتلٍ واصطفافات سياسية، أدت في واقع الحال إلى تكريس المحاصصة الطائفية، والمنظومة السياسية التي أنتجت هذا الخراب وأشاعت بيئة الفساد ونهب المال العام، والتسلط على مفاصل الدولة المهترئة التي باتت لا دولة .
لكن تلك كانت مرحلة شكوكٍ وقلقٍ وافتراق، خيمت على أجوائها إرث أربعة عقود من الاستبداد، وأفرزت أحقادا وإقصاءً وتهميشاً طاولت جماعاتٍ وطوائف ومللاً، مما جعل للهويات الفرعية والدفاع عن مصالحها، في ظل تراجع الوعي، وتدهور القيم وتراجع المُثل الوطنية العليا، القيمة الأسمى ..! وكان من شأن ذلك كله غياب الرؤية واعتماد المواقف الملتبسة إطارا عاماً لما انحدرت إليه السياسة العامة في البلاد...
رغم كل ما يمكن استذكاره من تلك المرحلة، فلابد من التوقف أمام تلك المحطات التي اتخذ فيها السيد السيستاني، موقفاً تاريخياً بفضح الطبقة السياسية الفاسدة، وعزلها عبر رفض استقبال أي قطبٍ فيها، بل رفض جميع رموزها دون استثناء، وهو ما استمر حتى اليوم...!
تلك العزلة التي طاولت المسبب الأول للهزائم التي حلت بالبلاد، رئيس مجلس الوزراء السابق، وشركاءه في السلطة ، لعبت الدور الأهم في التغيير الذي أطاح بالحكومة السابقة، وحال دون فرض ولاية ثالثة له .
وإذا لم تتوضح صورة المشهد الذي تحركت فيه المرجعية خلال المنعطفات السابقة، لاعتبارات تتعلق بسياقات التقاليد التي تتحكم في أدوار السيد السيستاني؛ ومكتبه، فإن الدخول المباشر له في المشهد الجماهيري الراهن وانحيازه بوضوح إلى جانب مطالب الناس، والتشديد في دعوة رئيس مجلس، الوزراء إلى التعامل الحازم ضد الفساد؛ ومظاهر انهيار المنظومة السياسية والأخلاقية للدولة والطغمة الحاكمة، يؤشر دون مواربة لاستعادة المبادرة لتجاوز أيّ شكوكٍ؛ أو هواجس بشأن ما كان مضمراً في بيت المرجعية العليا في النجف الأشرف .
إن اصطفاف المرجعية مع المتظاهرين وتبني مطالبهم، وإعلانها الصريحٍ بتبنيها مطلب الدولة المدنية، يكرس لحظة مشرقة مستعادة من تلك الثورة الوطنية الشعبية في أوائل القرن الماضي وأمجادها... ثورة العشرين ..
إن هذا الاصطفاف الوطني للمرجعية الدينية وعلّامتها الأبرز، يحتم على كل متظاهر في ساحات البلاد أن يكون أمام مسؤولية تجنب وضع الدين من حيث هو عقيدة المسلمين بغض النظر عن مستويات إيمانهم وممارستهم لشعائرها، وبين رموز الفساد والتفسخ السياسي، ونهابي المال العام والمتسلطين على مقدرات البلاد في إطار المحاصصة الطائفية وتقاسم مغانمها .
وهذا الوعي بالتلازم بين المطالب والأهداف والشعارات، وضرورة إجراء فرز بين جميع الكتل والأحزاب والمجموعات، على أساس الانحياز إلى صفوف المتظاهرين، وتبنيّ شعاراتهم ومطالبهم، بعيداً عن أيّ مساسٍ بالدين والمعتقد، وتجاوزاً للشخصنة والاستهدافات المفرقة للصفوف، التي قد تدفع قوى متنفذة تطمح للانحياز إلى الجماهير للتخلي عن إيجابيتها، ليس بمعزلٍ عن ضغوطاتٍ تتهمها بعدم الدفاع عن الإسلام والقيم الدينية ورموزها ...!
الفاسد؛ والطاغية؛ واللص لا دين ولا مذهب له... ويتشارك في هذا العلماني، والمدني إلى جانب المنتمي إلى فصائل الإسلام السياسي. ..
ليكن شعارنا: الدين لله والوطن للجميع ...!
تم نشر المادة بالاتفاق مع الكاتب لأهميتها...