وكالة قاسيون للأنباء
  • الأربعاء, 15 يناير - 2025

هل هناك أمل من السلفية في أن تُنتج وعيًا تاريخيًا معاصرًا للواقع؟

نحن هنا أمام مشهد من مشاهد الجدل السلفي / السلفي، لكنه مشهد مختلف عن غيره، فهو ليس بالجدل الذي يناقش فروع المسائل، ويخالف أقوالًا فيها ليرجح أخرى، وإنما جدل يطالب بمراجعة الكثير من الأسس التي تقوم عليها السلفية المعاصرة، وتوضيح أهم الإشكالات التي تعايشها، مع الدعوة إلى تقديم نموذج من داخل الإطار السلفي.

وطُرِحت هذه المطالبة تحت عنوان «ما بعد السلفية »، الذي يفيد معنى التجليّ الجديد والتفسير المختلف للسلفية.

مؤلفا هذا الكتاب هما الباحثان أحمد سالم، وعمرو بسيوني، وهما شابان يتبنيان المنهج السلفي، لكن ضمن إطار تجديدي منفتح، ولعل سعة اطلاعهما قد ساهمت في تكوين هذا الطرح، فبجانب اطلاعهما على العلم الشرعي بمصادره التراثية، فَهُم على دراية بالمدارس الفكرية الغربية الحديثة. وقد أثار صدور هذا الكتاب جدلًا كبيرًا في الأوساط السلفية، وكُتبت مقالات نقدية عدّة على العديد من مواقع سلفية مثل: شبكة طريق السنة، موقع الدرر السنية، موقع صيد الفوائد، وغيرها.

ويوضح المؤلفان في هذا الكتاب أهم إشكالات السلفية المعاصرة، وذلك من خلال تعريف السلفية، والبحث في تحققاتها التاريخية السابقة، واستقراء اشتغالها المعرفي في الحديث؛ والفقه؛ وأصوله، ومراجعة المنطلقات الإصلاحية للخطاب السلفي، والتفكير في الآفاق المتاحة للسلفية المعاصرة مستقبلاً.

سأكتب هنا مجموعة من الملامح المستبطنة في هذا الكتاب، وهي ملامح مهمة في سياق نقد السلفية المعاصرة:

1- تفكيك مواضع التصلب في الخطاب السلفي المعاصر، وذلك من خلال حلحلة الأسس التي تقوي هذا التصلب.

2- بالإضافة للاجتهاد الشخصي في نقد السلفية المعاصرة، فهناك ملمحٌ آخر ذو أهمية، وهو استعمال نصوص ابن تيمية في نقد السلفية، سواء في تحققاتها التاريخية الماضية، أو في صورتها المعاصرة، وهذا ملمح يبين استقلال ابن تيمية النسبي عن تأويلات السلفية، ويدل على ضعف تمثيل السلفية لابن تيمية.

3-  إخراج بعض القضايا الخلافية من دائرة الاختلاف المُحرَّم لدى السلفية إلى دائرة الاختلاف السائغ المباح.

 

ما هو المنهج السلفي ؟

حين نتحدث عن السلفية فنحن نقصد الجماعة التي تعتقد بمنهج السلف، وتنتهج منهجهم في فهم الكتاب والسنة، وهؤلاء السلف هم الصحابة والتابعون وتباعوهم من أهل القرون الثلاثة الأولى، ويعتبر السلفية أن من كان بالحديث أعلم كان بمذهب السلف أعلم وله أتبع.

ويتفق السلفية على مجموعة من الأصول المتعلقة بالتوحيد، والتي تُعَد العقيدة الواسطية لابن تيمية وكتاب التوحيد لمحمد ابن عبد الوهاب ركيزتين لهذه الأصول، وتنص على ضرورة الإتباع وعدم الابتداع، والإحداث في الدين.

كما تتفق على مجموعة من القواعد مثل رفض التأويل الكلامي، ورفض المبالغة في الاعتداد بالعقل وتقديمه على النقل، وعدم معارضة الوحي بعقل أو رأي أو قياس، بالإضافة إلى قاعدة القبول بأخبار الآحاد، والعمل بها في العقائد، والأحكام بلا استثناء منهجي.

وللسلفية مجموعة من الاختيارات أدت إلى صياغة هوية ثقافية للمنتمين للسلفية المعاصرة، مثل التزام النساء بتغطية الوجه، وتقصير الثياب وتحريم إسبال الرجال لثيابهم، وانتشار لبس الرجال للثوب السعودي، وتحريم الموسيقى، وتحريم حلق اللحية، وترك تهذيبها والأخذ منها.

 

عقيدة الفرقة الناجية

من الأسس التي تقوم عليها السلفية ويتفق عليها أعلامها، هو وجود منظومة عقدية واحدة، من التزم بها فهو من الفرقة الناجية، والفرق التي لا تلتزم بهذه المنظومة هي الفرق المبتدعة الضالة، وهي فرق مُتَوعَّدة بالنار، ويقوم هذا الأساس على الحديث الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: ” تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: هي ما أنا عليه وأصحابي”.

وترى السلفية أن العقائد هي منبع الافتراق في هذا الحديث، وترى أنها هي تلك الفرقة الناجية، لأنها الفرقة التي التزمت بما كان عليه النبي والصحابة في أصول الاعتقاد، وحافظت على ما كان عليه معتقد أهل السنة والجماعة.

وبحسب الباحثين، فإن الحديث لا يُشَك في إسناده، ولكن يقع الخلل في الفهم الناتج عن هذا الحديث، سواء الفهم الذي يظن أن الوعيد بالنار هنا صادق على مخالف بلا اعتبار للشروط والموانع، أو الفهم الأخطر من هذا: ” وهو فهم من عيَّن مجموعة من الأبواب أو المسائل كأصول الدين أو أصول مسائل الاعتقاد، وجعلها حصرًا وقصرًا مناط الافتراق، وبالتالي جعل من التزم فيها قولًا معينًا كان من الفرقة الناجية دون من خالف فيها”.

ويطرحان في المقابل تأويلاً أكثر انفتاحًا وأقل تصلبًا من التصور السائد، مفاده أن مصطلح الفرقة الناجية مرادف لمصطلح الإيمان الكامل بالواجبات، والموافقة التامة لما كان عليه النبي صلى عليه وسلم في العلم والعمل، ولا ينطبق معنى الحديث على العقائد كما ينطبق على العبادات والأخلاق، وكل فرقة قد تصيب الحق في القول والعمل، وقد يفوتها في أقوال وأعمال أخرى، وقد تدركه في أبواب أخرى، بحيث تكون النجاة هنا مدار سعي للناس والفرق.

وتستعمل السلفية حديثًا آخر لتدل من خلاله على معنى الفرقة الناجية، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرون، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون”.

ويتفق أهل الحديث على أن هذه الطائفة هم أهل الحديث، أي السلفية، لكن الباحثين يشيران إلى كيفية استخدام ابن تيمية لهذا الحديث، فالطائفة المنصورة – كما يفسرها ابن تيمية – هم أهل الجهاد، وإن حُمِل الجهاد على معنى العلم، فلا يفيد الحديث تحديدًا لطائفة دون غيرها.

 

تطور السلفية

يحاول الباحثان أن يحددا أهم التحققات التاريخية للسلفية، من خلال تحقيبها إلى مراحل تشكُّل تطور السلفية عبر التاريخ، سواءً كانت هذه التحققات في أفراد أو جماعات:

 

أولًا: القرون المفضلة

يعتبر حديث النبي صلى الله عليه والسلام الذي ورد فيه ” خيرُ الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ” أصلًا مهمًا في تحديد الطبقات التي تتصف بالخيرية والأفضلية على غيرها، وهذه الطبقات وفق هذا الحديث وشراحه هي الأجيال الثلاثة: الصحابة والتابعون وأتباع التابعين، والتي تمتد إلى الثلث الأول من القرن العشرين.

وأول هذه القرون هو جيل الصحابة، وهو الجيل المعياري بالنسبة للتصور السلفي، فالسلفي يسعى لطلب ما كان عليه الصحابة ويشكل أدلته بناءً عليهم، وموضع الاحتجاج بهم هو الاحتجاج باتفاقهم لا باختلافهم، واختلافهم يُوجب طلب البينة من الوحي على صحة أقوالهم.

 

ثانيًا: الجيل الرابع

وهو الجيل الذي أخذ عن القرون المفضلة، وقد عاصر هذا الجيل اكتمال الفرق التي يعتبرُها السلفيين فِرَقًا مبتدعة، فاتسع السجال فيما بين هذه الفرق والسلفية الذين تسمَّوا في هذه الحقبة بأهل الحديث.

ولأعلام هذا الجيل مثل الشافعي وأحمد والثري وابن عيينة والبخاري وابن راهويه أصحاب حضور كبير في المدونة السلفية، ويعتبرون أنفسم ورثة الأجيال السابقة، وساهمت أحداث محنة خلق القرآن في صياغة تكوين هذا الجيل من أقوال ورجال، كما ساهمت في وضع أحمد بن حنبل موضع الرأس والرمز لهذا الاتجاه، مما أدى إلى مزج السلفية بالحنبلية فيما بعد.

وتُسلِّم السلفية المعاصرة بصحة تمثيل الجيل الرابع للصحابة والقرون المفضلة، وتجعل طبقة أحمد امتدادًا لهذه الأجيال، وبالتالي تصبح آراء ومواقف هذا الجيل من جملة العقائد السلفية، وتأتي أهمية هذا الجيل من مواجهته للفرق البدعية بعد اكتمالها، فكان هو الممثل الأهم للمعمار السلفي.

ويشير الباحثان إلى وجود جملة من العقائد التي ضُمَّت للسلفية المعاصرة، تم اعتمادها بالاكتفاء بإثبات الجيل الرابع لها، حتى لو لم يكن مدللاً عليها بأصل صحيح من الوحي، وحتى لو لم يُحفظ عن واحدٍ من الصحابة أو القرون المفضلة، كمسألة خلق القرآن أو الكلام في بعض الصفات عن الله.

كما يشيران إلى “وجوب مراجعة بعض القضايا التي تم تعظيمها وتبديع المخالف فيها في التحققات السلفية المتتالية منذ أحمد”، ومراجعة الحيز الضيق الذي تجعله السلفية لفروع الاعتقاد، والذي تُصبح المخالفة فيها من الاختلاف المحرم.

 

ثالثًا: بين الجيل الرابع وابن تيمية

اتسمت هذه المرحلة للسلفية بعدة سمات:

النصوصية الخبرية واضمحلال النظر العقلي: فاكتفوا بنقل الآثار مع قلة بالفقه والعقل كما يقول فيهم ابن تيمية، والاكتفاء بترديد نصوص السالفين ( خاصة أحمد) من غير نظر فيها.

الغلو في الإثبات: وهو مرتبط بإهمال النظر العقلي، فانقطع المنتسبون للحديث في الاعتقاد بأخذ النصوص من دون تأمل فيها، ولابن تيمية والذهبي تعليقات على هذا الغلو عند هذا الجيل.

الشدة على المخالفين: ومن أشهرها ما حدث بين الحنابلة وابن جرير الطبري (310هـ)،أو بينهم وبين ابن حبان.

ونرى لدى شيخ الحنابلة البربهاري (329هـ) شدة على مخالفي أهل الحديث والحنابلة، فيذكر في كتابه “شرح السنة” أهمية الالتزام بالأثر وتقليد ما جاء به السلف، ونلمس في كتابه معيارية فهم أحمد والحنابلة لمذهب أهل السنة، وأن مخالفه يكون مبتدعًا هالكًا.

وقد أثر وصول الحنابلة إلى السلطة تأثيرًا كبيرًا على شدتهم مع مخالفيهم وامتحانهم للفرق الأخرى كالمعتزلة والأشاعرة.

 

رابعًا: ابن تيمية

قام ابن تيمية بإنشاء البنية التامة للمعمار السلفي، فالسلفية قبل ابن تيمية كانت عبارة عن أقوال متفرقة، لكن ابن تيمية جمعها داخل معمار أكثر تماسكًا، وكل من بعده هم مجرد امتداد لهذا المعمار، “بغض النظر عن صواب فهم هذه الامتدادات للبنية التيمية من عدمه”.

لكن كيف تمثَّل ابن تيمية تراث السلفية من قبله ؟ يشير الباحثان إلى ست حالات لهذا التمثل، فهو إما أن ينقل ويقرر من دون زيادة أو نقصان، وإما أن يدعِّم النقل بمزيد من الأدلة النقلية والعقلية، أو أن ينقل أقوال السلف مع دمجها في بنية أكبر، وقد يعيد تأويل وقراءة ما نقله عن السلف، وأحيانًا يقوم بنقل قولٍ للسلف في مسألة معينة، فتخرج له مسألة لم يقل بها السلف ويقدم قوله فيها، وآخر هذه التمثلات هو أن يقوم بتخطئة ونقد بعض التصورات السلفية.

 

خامسًا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب والدعوة النجدية

كان محور الدعوة الوهابية هو محاربة مظاهر البدع والشركيات التي كانت منتشرة حولهم، خاصة الأفعال الشعائرية الموجهة للأولياء والقبور، كالتوسل والاستغاثة وغيرها، حيث اعتُبرت هذه المظاهر كفرًا يجب تكفير ومقاتلة فاعليها.

وقد استندت الوهابية في ذلك على نصوص الوحي التي تفيد منع صرف العبادة لغير الله واعتبارها من الشركيات، وأن هذه النصوص تصدق على الاستغاثة بغير الله، كما استندت على نصوص ابن تيمية التي تعتبر الاستغاثة شركًا وكفرًا. وهذه المرحلة المهمة للسلفية تعد أول تحقق تاريخي تحمل فيه السلفية السيف من أجل نشر عقيدتها، وتعتبر أنها تنشر الإسلام، وتنجح في تأسيس دولة.

لا ينكر الباحثان أن الوهابية لا تختلف عن التحققات السابقة في تحريم وتكفير هذه الشركيات، لكن المسألة الأهم في نظرهما هو: هل انتقلت التحققات السابقة من تكفير الفعل إلى تكفير العين (أشخاص بعينهم) بهذا القدر الذي مارسته الدعوة الوهابية كمًا وكيفًا؟ ويجيبان: “ لا نرى أن الوهابية في ممارستها للتكفير والقتال كانت تحققًا مماثلًا للتحققات السلفية السابقة عليها، ولا نرى نمط التحققات السلفية السابقة، وأنواع الانحرافات التي واجهوها مما يُمكن أن يُخرج عليه فعل الوهابية، وأقرب شيء لما عاصره الوهابية، هو ما شهده ابن تيمية، وهو لم يسلك مسالكهم“.

موضع الاختلاف بين الوهابية وما قبلها نجده عند المقارنة بين موقف محمد بن عبد الوهاب وموقف ابن تيمية من هذه المسألة، فيحكم بن عبد الوهاب على أحد علماء زمانه بالكفر والشرك بحكم مخالفته في مسألة تكفير من ” عبد الأوثان عبادة أكبر من عبادة اللات والعزى، وسب دين الرسول بعدما شهد به “.

أما ابن تيمية في نقاشه مع البكري حول مسألة التوسل، فبالرغم من حكمه على التوسل والاستغاثة بأنها بدعة وشرك، إلا أنه لم يكفره، وقال إن ذلك يحدث “لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين“. ولذلك “لم يمكن تكفيرهم حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه“.

 

سادسًا: السلفية المعاصرة

المنصة التي انطلقت منها السلفية المعاصرة كانت الدولة السعودية الثالثة، فهذه الدولة هي أول دولة في الحقبة الحديثة يتم فيها دمج السلفية كتيار مركزي يمثل السلطة الدينية الداعمة والمحالفة مع السلطة السياسية.

المساهمة التي قدمتها الدولة السعودية الثالثة لانتشار السلفية، هي توفير “المجتمع والفضاء العام السلفي الذي أدت هذه الدولة إلى وجوده حرًا مستوليًا على عدد من مؤسسات الدولة …، وقادرًا على توليد الرموز واستقطابها، وحرًا في استعمال المال والرجال لنشر الأفكار “.

وبدأت السلفية بالانتشار في مجموعة من بلدان العالم العربي عن طريق رموزها ورجالها، لكن ازدهار السلفية الأكبر كان بين جناحي السعودية ومصر، وبالنسبة للتلقي المصري للسلفية، فقد ساهمت جمعية أنصار السنة المحمدية التي أنشأها محمد حامد الفقي الأزهري في هذا الازدهار، وقد تأثر مؤسسها بأفكار محمد رشيد رضا، وتبنى أفكار ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب.

ومع ذلك، لم تسمح الظروف بتمدد السلفية داخل المجتمع الذي كان مستغرقًا في أسئلة وهموم مختلفة عن اهتمامات السلفية بمسائل التوحيد ومظاهر التسنن، كما أنها لم تستطع أن تزاحم المركز الذي يسيطر عليه الإخوان المسلمون والمؤسسة الدينية الرسمية( الأزهر).

إلا أن تحولًا طرأ على الساحة السياسة، أدى إلى انتشار السلفية، فمع قمع الإخوان من قِبَل جمال عبد الناصر، واعتقال وإعدام أهم رموزها، بالإضافة لبزوغ الحركة الطلابية تمددت السلفية في هذا الفراغ، والتي لم يكن بين يديها إلا المطبوعات التي تنشرها التجمعات السلفية، والسبب الأهم الذي ساعد على إزالة حواجز التمدد السلفي، هو فرار القيادات الإخوانية من الشام ومصر إلى السعودية التي رفعت شعارات إسلامية في وجه الشعارات الإخوانية، فشكلت السعودية بيئة استقبال لهذه النخب، مما مزج التيار الإخواني بالسلفي، وتعبئة التيار الإخواني بمضامين عقدية وشعائرية وسلفية.

 

ننتقل الآن لمناقشة الاشتغال المعرفي السلفي، وهو كالتالي:

الاشتغال السلفي الحديثي

يمكن التأريخ للاشتغال الحديثي عند السلفية بما قبل الألباني وما بعده، فبالرغم من وجود اهتمام بالحديث عند بعض رموز السلفية قبل الألباني مثل أحمد شاكر، إلا أن تركيز الألباني على الحديث كان مختلفًا، من حيث اهتمامه بتصحيح وتضعيف الأحاديث، وأعماله المتتابعة في التحقيقات الحديثية، وكتاباته الجامعة بين الفقه والحديث.

وكان الألباني يأبى التقليد، وقد وافق الحديث هذا النزوع عند الألباني لما وجد فيه من مادة خام يمكن من خلالها مواجهة التقليد، وكانت قاعدته أنه لا يُلقد أحدًا في منهجه العلمي، ولا يتوقف عن نقد الأئمة المتقدمين والمتأخرين ما دام يملك دليلاً على نقده.

ويقوم منهجه في تصحيح وتضعيف الحديث على الحكم على ظواهر الأسانيد، والتوسع في اعتبار الطرق والمتابعات الشواهد، مع قلة النظر النقدي في المتون. وقد يخالف في منهجيته في التصحيح والتضعيف كلام أحد الأئمة النقاد المتقدمين في حديث أو إسناد، كما انعكس ذلك في تضعيفه لبعض الأحاديث الواردة في الصحيحين.

وقدم هذا الأمر اهتزازًا على المستوى الفقهي والحديثي للبناء السلفي، فاجتهاد الألباني غير المقيد قد يصطدم ببعض مسلمات الإطار السلفي المحافظ، ومعلوم ما للصحيحن من مكانة مقدسة عند التصور السلفي، وانقسم إثر ذلك السلفيون إلى متابعين مقلدين لطريقته، وآخرين لم يتابعوه.

 

الاشتغال الأصولي والفقهي عند السلفية

يذكر الباحثان آراءً مهمة بخصوص طبيعة الاشتغال الأصولي عند السلفية، فليس هناك اهتمام حقيقي للسلفية المعاصرة بأصول الفقه، وهو أمر مخالف لسلف السلفية المعاصرة، ابن تيمية، الذي كان أصوليًا فذًا.

فمحمد بن عبد الوهاب لم يكتب كتابًا كعمل متكامل في أصول الفقه، وإنما مجرد فصول قليلة وعامة، حتى الطبقات اللاحقة من شيوخ الوهابية لم يكن لها اعتناء بهذا المبحث إلا شذرات، لكن المباحث الأصولية الأخص كالإجماع وأدلة الأحكام المُختلف فيها ومباحث الألفاظ فليست موجودة.

ولم يهتم الألباني بأصول الفقه إلا قليلاً، فقد درَّس كتابًا بسيطًا لأصول الفقه لمؤلفه عبد الوهاب خلاف، لكنه كان قليل التفعيل للأدوات الأصولية في اشتغاله الفقهي.

يشير الباحثان إلى أن هذا الاشتغال الأصولي المحدود عند السلفية، ” ينطوي على اعتراف ضمني بأن ذلك العلم غير سلفي بالأساس أو بعبارة أخرى: غير مؤسس على الدليل”. فطبيعة “الاشتغال الفقهي السلفي في النصوص، مع عدم اعتماد الآليات الأصولية، كان يشير إلى هذا المعنى”.

 

ويذكر الباحثان الإشكالية الكبرى في علاقة السلفية بالأصول، وهي إشكالية الاشتغال الأصولي في الدرس الفقهي، والتي أنتجت ثلاثة إشكالات هي:

1- الخلل الحاصل بسبب تنزيل الرواية منزلة السنة: وهو ناتج عن اعتبار مجرد الرواية عن الرسول – التي صح ظاهر إسنادها – هي السنة نفسها، والحقيقة أن هذه الرواية هي طريق للوقوف على السنة، فالأمر موضع اجتهاد.

2- الخلل الحاصل في أبواب الاجتهاد والتقليد والاختلاف: ونتيجته أن الخطاب السلفي ينكر سائغية الخلاف في بعض القضايا الفقهية، كما يشيع في الخطاب السلفي “إنكار أن يكون الاختلاف رحمة، رغم أنه معنى صحيح شائع في كلم السلف في القرون المفضلة”، فالنفور من الاختلاف هو من محدثات السلفية المعاصرة.

3- الخلل الحاصل في أبواب المقاصد والذرائع: فيتحفظ السلفية على التوسع في الفقه المبني على المقاصد، ويعتبرونه تمييعًا وتفلتًا من سلطة النص، كما أنهم يكتفون بتأسيس الحرمة على مبدأ سد الذرائع، فهم يميلون لجانب الاحتياط والحظر والمنع، وهذا الموقف من السلفية يجعلهم أبعد عن إدراك واقع الناس وتغير مسار التاريخ وإنزال أحكام النص على الواقع.

 

وتتصل هذه الإشكاليات بثلاث سمات تهيمن على الاشتغال الفقهي السلفي المعاصر:

1- الاعتماد الكبير على الحديث في البحث الفقهي، وإن استلزم ذلك إهمال دلالة القرآن على الأحكام الشرعية.

2- سوء إدارة الخلاف الفقهي، فالكثير من مسائل الخلاف السائغ التي تختار في السلفية حكمًا معينًا، تعتبر بالنسبة لهم من مسائل الولاء والبراء، فلا تتسم بالسعة في قبول الرأي الآخر، ويتم الحكم على المخالف ويُبحث في جواز معاملته أو الصلاة خلفه وغيرها.

وهذا على عكس السياسة المتسامحة التي كانت عند ابن تيمية في الخلاف في المسائل الفرعية، الذي يقول فيها: ” وأما التعصب لهذه المسائل ونحوها فمن شعائر الفرقة والاختلاف الذي نهينا عنه “.

3- ” الفقه السلفي بسيط، لا يحب التفصيل، ولا تعداد الحالات، يميل إلى المباشرة، والقول الواحد، وعدم التعقيد اللفظي، أو المعنوي”. ولذلك يواجه الفقه السلفي صعوبة في بحث المسائل السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية المستجدة.

يختم الباحثان الكتاب بتنبؤهما بأفول السلفية بعد الازدهار، وذلك بحكم التفرق والتشظي اللذين تعاني منهما السلفية اليوم، وفقدانها للأجوبة التي تدعم صلاحيتها وجاذبيتها، وفقرها للرموز وللرجال الممثلين لها.

وبغض النظر عن صحة هذا التبنؤ من عدمه، فإن وجود مثل هذا الطرح من داخل الإطار السلفي أمر مهم وذو دلالة على صعيد سؤال التجديد، لكن تبقى محاولة مرهونة بتساؤل، وهو: هل تبقى السلفية سلفية إذا نشأ من داخلها تيار يتبنى أسسًا مختلفةً عن قواعدها وأصولها، وماذا يبقى من الانتماء للسلفية إن تجاوز البعض أسسها؟ كأن يُدخل القياس والاستنباط العقلي، أو يراجع مركزية الحديث في الاستنباط الفقهي وغيرها من المراجعات؟

بالإضافة إلى ذلك، هل هناك أمل من السلفية في أن تُنتج وعيًا تاريخيًا معاصرًا للواقع، خاصة أن الماضي – كمحدد هوياتي للسلفية – هو الحاكم لرؤيتها تجاه المستقبل؟!.

 

بقلم حمزة ياسين – نقلاً عن التقرير