هل من عودة إلى معادلة العام 2013؟*
قاسيون ـ عبد الباسط عبد اللطيف
الثوار على أبواب دمشق، النظام يتآكل ويزداد عزلة وضعفاً يوماً بعد يوم، ثورة السوريين تمتد شعبياً على مدى خارطة الوطن، وتستند إلى العمق العربي والإسلامي الذي دعمها في وجه إجرام النظام، وأصبح سقوط النظام بأي لحظة خبر ينتظره الجميع، وسيناريوهات الحل السياسي تؤكد على الانتقال إلى سورية بدون الأسد.
هكذا بدا المشهد في 2013 بداية العام الثالث لثورة السوريين على واحد من أعتى الأنظمة القمعية التي عرفها التاريخ.
لتأتي بعد ذلك ثلاثة أحداث عظام تلقي بطوق النجاة مؤقتاً للأسد وتلقي بظلالها على ثورتنا لتمدّ من أمد بقائه ومأساتنا، داعش والاتفاق النووي الأمريكي الإيراني والخلافات بين الأشقاء، أحداث أدخلتنا في مسار من النكسات والتراجع وصولاً إلى جمود ومراوحة في المكان كما أنها أنعشت آمال نظام الأسد البائسة.
ونتعلق اليوم كسوريين بكل بارقة أمل تلوح في الأفق من شأنها أن تغير من حالة الجمود التي نعيشها، أو تؤذن بوضع حد لمأساتنا التي طالت، وتعطينا الأمل باستعادة بلادنا التي مزقتها احتلالات رعاة النظام الذي باع كل شيء في سبيل البقاء.
فنحن كشعب توزع بين مهجَر لاجئ أو نازح، وبين محاصر في مناطق سيطرة النظام، يعيش كل جزء منا مأساته، المهجّرون الذين فارقوا الدار والأهل يعيشون في الشتات والغربة والمستقبل المجهول، والباقون الذين يعكس عليهم النظام عزلته والعقوبات المفروضة عليه ويمارس عليهم مزيداً من الإذلال والإفقار، ويستمر في منهجه في الاعتقال والتعذيب والقمع، بينما يجمعنا معاً الأمل بضوء في نهاية هذا النفق الطويل يعيد لنا بلادنا التي يبيعها الجلاد في سوق النخاسة والابتزاز الدولية.
ففي هذا المخاض الطويل وطريق الآلام الذي نمشيه، نحو الخلاص، دفعنا وندفع ثمن كل اتفاق وتفاهم بين رعاة النظام وبين أولئك الذين لا يستعجلون الخلاص منه، المستثمرين في مأساتنا، كما دفعنا وندفع ثمناً غالياً نتيجة كل خلاف ينشب في عمقنا العربي والإسلامي الذي احتضن قضيتنا والذي ما زلنا نراهن عليه في صراع بهذا الحجم والتعقيد، له انعكاساته على مستقبل المنطقة ككل.
كذلك فإننا دفعنا ثمن المشاريع المشبوهة وكنا ضحية لهذه المشاريع التي مررت لتحقيق أهداف أريد لها أن تنعكس على قضيتنا؛ إطالةً لأمد معاناتنا، ومُهلاً إضافية لنظام يعتاش على الأزمات ويتاجر بها، كمشروع داعش.
فالسوريون بالدرجة الأولى هم من دفعوا ثمن هذا المشروع المشبوه الذي أنقذ النظام وهو على مشارف السقوط، بعد أن حرروا أكثر من سبعين بالمئة من مساحة سورية من ميليشيات الأسد، فمنح دخول داعش في المعادلة السورية الكثير من النقاط للنظام، وكلفت حرب هذا التنظيم على قوى الثورة ثم حرب التحالف للقضاء عليه الكثير الكثير من الضحايا والدمار.
والسوريون هم من دفعوا ثمن الاتفاق النووي الإيراني الأمريكي الذي سمح للإيرانيين بالتدخل العلني لإنقاذ نظام الأسد، كما أنه مهّد الطريق للتدخل الروسي، فالولايات المتحدة في ذلك الوقت لم يكن يهمها سوى إنجاح الاتفاق النووي بأي ثمن، وكلنا نذكر الجملة الشهيرة التي قالها الرئيس أوباما لمستشاريه بعد توقيع الاتفاق مع إيران: (لا أريد أن أسمع شيئاً عن سورية).
تغيرت الأمور كثيراً بعد ذلك لصالح حلفاء النظام الذي بقي كهيكل فارغ ومجرد مسوّغ لوجودهم على الأرض السورية وإدارة حساباتهم الإقليمية والدولية من موقع السيطرة على نظام الأسد.
لم تقف الأمور عند هذا الحد فقد جاء الخلاف ضمن البيت الخليجي وبين بعض الأشقاء مع تركيا ليترك بالغ الأثر علينا كسوريين ورغم معرفتنا بفداحة الضرر على قضايا المنطقة، إلا أننا ونحن في وسط الحريق أكثر من دفع ثمن هذا الخلاف.
وبالطبع فإن من تنفس الصعداء بالدرجة الأولى هم إيران و"إسرائيل" اللتان تمارسان التخادم الإستراتيجي على مدى عقود من الحروب الخطابية الإعلامية والتفاهمات وتبادل الخدمات على أرض الواقع.
إيران التي تمددت بفعل الضوء الأخضر بعد الاتفاق النووي، بحجة مكافحة الإرهاب الذي راكمت خبرة عقود من إنتاجه وترويجه والاتجار به ثم ادعاء محاربته.
و"إسرائيل" التي وجدت في هذا الخلاف فرصة لابتزاز الخليج بحجة إيران واستئناف مشروعها القديم الجديد في اختراق الساحة العربية وفرض التطبيع وتمييع القضية الفلسطينية.
وقد تعَّدى المستفيدون الكثر من هذا الخلاف حدود الإقليم، لكننا كما أسلفت أكثر من دفع الثمن.
فانعكس كل ذلك ميدانياً على شكل انخراط مباشر وواسع للروس والإيرانيين مما وسّع رقعة سيطرة النظام، فيما قضمت ميليشيات PYD الإرهابية بقوة التحالف الدولي الأرض السورية التي حررتها قوى الثورة من النظام ثم أخرجتها منها داعش.
وانعكس ذلك سياسياً على شكل الابتعاد عن مسار جنيف وبيانها وسيناريوهات الانتقال السياسي، لتقدّم سلة الدستور على سلة الحكم، كما انعكس تراجعاً دولياً تحت ذرائع متعددة، تاركين الميدان للروس ومشروعهم اليائس بتعويم الأسد ولمسار بلا أفق.
رغم كل هذا الواقع الصعب، تمسك السوريون بحقهم في مستقبل بلا استبداد ولا احتلالات ولا أسد، وتفاعلوا مع الطروحات ليس حباً بها، بل سعياً للإبقاء على قضيتهم حية على طاولة السياسة حيث لا لا يمانع الكثيرون من طيها، وصمدوا في الميدان ما أمكن، وتحركوا في المناطق التي أعاد النظام احتلالها وصبروا على كل وجوه المأساة والنكران، أبقوا على شعرة الود حتى مع من أدار لهم ظهر المجن.
صمدوا وراهنوا على حقهم أولاً، وعلى تغير الشروط الموضوعية ثانياً، وتعلقوا بأمل عودة عمقهم العربي والإسلامي للتماسك في وجه تحديات تستهدف الجميع ولا تخدم إلا الطامعين.
داعش انتهت وألغي الاتفاق النووي مع إيران، وثمة بارقة أمل برأب الصدع بين الأشقاء في السعودية وتركيا وحل الخلافات الخليجية.
هناك اليوم نقطة ضوء بالنسبة للسوريين، بأن يعتدل الميزان الذي مال منذ سنوات، ويقطع الطريق على إيران ومشروعها، وفي حال تم ذلك يصبح الخلاص من إيران في سورية أسهل بكثير، ويجبر الروس على مراجعة حساباتهم وسوق النظام إلى تطبيق الحل السياسي وفق القرار 2254، أو يتخلون عنه ويبيعونه ضمن توازنات المرحلة الجديدة، وإلى أن يحين ذلك سيبقى النظام معزولاً محشوراً في الزاوية منتظراً قدره المحتوم وسنبقى متعلقين بالأمل، مصرين على حقنا بسورية التي نريد.