الشعب السوري ما بينذل
" الشعب السوري ما بينذل "
ربَّما يحقّ لكلّ سوريّ اليومَ التعبيرُ عمّا يفكّر به بحريّة مُطلقة، دون أن يخاف من ردّة فعل أيٍّ كان، و هذا الحقّ تكفّلت به نجاحات الثورة بدءاً من أوّل صرخة بكلمة "حُريّة ..حرّيّة " و انتهاء بآخر قطرة دمّ سالت في سبيلها. من هنا أريد أن أقول: انطلقت ثورة الكرامة في سورية، تحمل أحلام الشّباب وطموحاتهم اللامحدودة. كانت الثورة في البداية صرخةً مدوّية ضدّ الظّلم والإذلال، تحت شعار: "الشعب السوري ما بينذل ".
وفي تلك الأوقات العصيبة، انبثقت فكرة عدم الإذلال، حيث برز الفارق بين القمع الحكومي الذي استخدم العنف و الإذلال الوحشي الذي كان يستهدف طمس إنسانية الأفراد وحقوقهم، و بين ممارسات الفصائل المسلّحة غير المنضبطة أحياناً و التي لا يمكن مقارنتها بأيّ حالٍ من الأحوال بالممارسات الممنهجة للأجهزة القمعيّة و العصابات الطّائفية التي انضوت تحت عباءة النظام .
الثوار كنموذج للحرية مناقض للسلطة وممارس لها على الأرض
و على الرّغم من أن تجارب الشّباب الثّائر، الذين عانوا من انتهاكات جسيمة، تسلّط الضّوء على أهميّة الكرامة والحرية كشعاراتٍ كانت تدعو إليها الثورة، و التقيّد بها ما أمكن، فإنّ تلك اللحظات التاريخيّة لم تكن مجرّد مواجهة ضدّ العنف، بل كانت بداية لرحلة نحو إعادة بناء وعي جماعي يجمع بين التّطّلعات نحو دولة مدنيّة تستند إلى العدالة والمساواة. بالتالي كان هذا الصراع ليس فقط من أجل البقاء، بل من أجل الهويّة الإنسانيّة التي لا يمكن المساس بها. لكنّ الطّائفة الأسديّة، بتصرفاتها الوحشيّة، قررت أن تتجاوز الحدود المعتادة في قمع الصّوت المعارض. لم يكن القمع مجرد محاولةٍ لإسكات الأصوات المستنكرة، بل تحوّل إلى أسلوب إذلال وإرهاب متعمّد، يهدف إلى إهانة الشّعب بكرامته وعِرقه ومعتقداته. كان الهدف الرئيسي هو تدمير الروح الإنسانيّة التي تشكّل جوهر الهويّة الوطنيّة.
تتوالى الأيام وتتصاعد الاحداث، وفي كلّ مرةٍ يُمارَس فيها القمع، يتكرر المشهد، مما يعكس إهانةً للثّورة السّوريّة. و تظلّ ذكريات أحداث قرية البيضا وبانياس و مجزرة الحولة و مجزرة الكيمياوي و غيرها من مئات المجازر حيّةً ماثلةً أمامنا، حيث كانت الدّموع تنهمر وتخفت الأصوات وسط حواجز من العنف والترهيب و القتل. كلّ عملية قمعٍ تحمل في طياتها ذكرى الإذلال، مما يجعل التّاريخ يتكرر في حلقةٍ مفرغةٍ من الوحشيّة. ومع ذلك، ظلّت قلوب الثوار تتوق لحريّة عامة رغم الأوجاع .
تتردّد صرخات – الساروت، القاشوش، أبو فرات، فدوى سليمان، مي اسكاف ،غياث مطر و مازن حمادة ، وغيرهم الكثير الكثير – في الذاكرة، مُذكّرة بأنّ الإنسانيّات التي تمّ قمعها لن تُمحى، وأنّ السعي نحو العدالة والكرامة مستمرّ. إن استذكار الألم ليس مجرّد سردٍ للمآسي، بل هو دعوة للجميع للاستمرار في النّضال من أجل غدٍ أفضل، يستحقّه كلّ سوري. لم تكن القضيّة العميقة لثورة الكرامة مجرّد صراع لتبديل مُذلّين بمُذلّين آخرين، بل كانت دعوة جذريّة تهدف إلى إنهاء جميع أشكال الذّلّ بشكل نهائي. إذ أدرك الشّعب أنّ القمع والإذلال لا ينحصران في النّظام فحسب، بل يمتدّان إلى الأجهزة القمعيّة والممارسات اللاإنسانية التي تُنتهك فيها كرامة البشر أيّاً كان من يمارسها .
الكرامة والحرية في سوريا الوليدة بعد التحرير
في عالم السّياسة المتقلّب، يبرز مفهوم "التشبيح" كتجسيد لقوى النظام أو قوى أمرٍ واقع أو قوى غير رسميّة تسعى لفرض سيطرتها المطلقة. هذه الظاهرة، رغم تغيير وجوهها وزمانها، تبقى فكرة متجددة؛ فالأفكار بطبيعتها لا تموت، بل تتحوّر لتواكب المستجدات. في الماضي كان التشبيح سلاحاً بيد النظام القديم، لفرض الهيمنة والقمع. من هنا تظهر أهميّة تجاوز هذه الظاهرة و ألّا يُسمح مُجدداً بممارستها دعماً لأيّ سلطة في طور التشكّل. إنّ ظهور تجاوزات في بعض المناطق تجاه أزلام النظام البائد لا يجب أن تكون منهجا قابلاً للتطور - مع أن التّجاوزات الحاليّة لا ترقى لنسبة 1% مقارنة مع ما حدث في مجزرة التضامن مثلا – لأنّ محاباتها أو الدّفاع عنها سيُكرّر النهج ذاته و هذا ما لا يقبله سوري . و هنا، يبرز تساؤلٌ حتمي: هل لمثل هذه الأفكار مكان في دولة قيد البناء؟. إنّ ديمومة هذه الممارسات عقبة في طريق بناء دولة تحتضن العدل والمساواة، تحترم رأي الأغلبية وتصون حقوق الأقلّيّات، وتمهّد بذلك لزمنٍ جديد تسوده القيم الإنسانية والإنصاف.
إنّ إعلان غرفة العمليات عن إنشاء مراكز تسوية في معظم المحافظات، خطوة في الاتجاه الصحيح بهدف معالجة أوضاع جنود النظام السابق وتحفيزهم على تسليم أسلحتهم. تجمهر المئات أمام هذه المراكز، قلة قليلة لم تستجب لهذه الدعوات. مع مرور الوقت، بدأت بوادر القلق تظهر، حيث تفشت حملات التحريض الطائفي والافتراء التي كانت تهدد تماسك النسيج الاجتماعي السوري. تصاعدت الأمور عندما انتشر فيديو يظهر حرق مقام في حلب لشيخ من الطائفة العلويّة، مما أثار حالة من الاحتقان الطائفي غذّتها بعض الأصوات المتعصّبة التي زعمت أنّها تخاف على الأقلّيّات. في خضم هذا الفوضى، وقعت اعتداءات على عناصر غرفة العمليات، إذ قُتل بعضهم على يد فلول النّظام المسلحين ، مما دفع الغرفة إلى إرسال قوات دعم سريعة للتّصدي لها . وبالرغم من استعادة الهدوء النسبي، انتشرت فيديوهات تُوثق انتهاكات تمت بحقّ مسلّحين مجرمين ، تتضمن مشاهد من الضرب والشتم والإذلال، مما أثار الشكوك حول الأخلاق التي يتحلّى بها بعض المقاتلين الجدد، في تذكير مأساوي بتصرّفات النّظام السابق تجاه المدنيين. رغم كلّ ذلك، لا يمكن تبرير مثل هذه التّصرفات التي سجلتها كاميرات الهواتف النّقالة. فالعدالة الانتقاليّة لا تتحقق عبر العنف أو الإذلال، بل تتطلب وجود قوانين واضحة تعاقب مرتكبي جرائم الحرب. إنّ هذه التصرفات غير المسؤولة تسهم في خلق حاجز من الخوف، وهو ما لا ينبغي أن يكون موجوداً في هذه الفترة الحرجة من تاريخ سوريا .
( قَالُوٓاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِنۢ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ٱلْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) . إنّ استخلافكم في الأرض من بعد هلاك أعدائكم ليس محاباةً لكم، وإنما هو استخلافٌ للاختبار والامتحان، فإن أحسنتم زادكم الله من فضله، وإن أسأتم كان مصيركم كمصير أعدائكم.
كلّ ظلمٍ لا بدّ أنّهُ مُنتهٍ طالَ الزمان به أم قصر ، و القوّة الجديدة جاءت مع مسؤولية عظيمة، فرغم أنّ التاريخ يمكن أن يغفر، إلّا أنّه لن يسامح من يتخلّى عن مبادئه أو يسير في دروب الفساد. لقد حان الوقت ليتوجّه الجميع نحو العمل والبناء وتحويل الدمار إلى حياة جديدة. من الضّروري ترك الانشغال بالماضي للقانون و المحاكم و الابتعاد عن منهجية الانتقام، والتركيز على كيفية استخدام القوّة المتاحة لبناء مجتمع يسوده العدل والمساواة.
التّغيير الحقيقي لا يتحقق بمجرد التّخلّص من الظلم، بل يستلزم الالتزام بالقيم الأخلاقيّة. لذا، يجب توجيه كلّ قوةٍ تُستخدم بعد زوال الطغاة نحو خدمة العدالة والمساواة، لتعزيز أسس مجتمع أفضل. إنّ المطالبة بالكرامة والعدالة ليست مجرد شعارات تُعبر عن رفض الظلم، بل هي حقّ طبيعي يتطلّع إليه كلّ إنسان. سعى الثّوار لبناء مجتمع يُكرم مبادئه، حيث تُصان إنسانيتهم وتُحترم حقوقهم الأساسيّة. بتلك الروح، تُعبر الثورة عن شغف الشّعب في تحقيق حياة حرّة وكريمة، تسكنها العدالة والاحترام المتبادل بين الأفراد.
بهذا، كانت رسالة الشّعب السّوري: "الشّعب السوري ما بينذل " واضحة فهو لن يرضى بالعيش تحت حكمٍ فَقَدَ إنسانيته. متمسكاً بالكرامة كحقّ طبيعيّ لا يمكن التّنازل عنه . لم تكن الثّورة مُجرّد حكاية حزينة تُروى، بل كانت فصلاً يُظهر عزّتهم وإرادتهم في تحقيق الاستقلال. كانت سعياً لإعادة رسم ملامح وطن يُحترم فيه كلّ مواطن، حيث تُصان كرامته وإنسانيّته في وجه جميع التّحديات.