الاعتصام الجاد: بين الوفاء للشهداء وواقعية المطالب
في خضم الأحداث المتسارعة التي تشهدها الساحة السورية، تبقى ذكرى أرواح شهداء ثورة الحرية والكرامة خالدة في الذاكرة الجمعية للشعب السوري.
فإحياء هذه الذكرى لا يُعتَبر مجرد طقسٍ عابر، بل هو واجب أخلاقي وسياسي يسهم في تعزيز الروح الثورية ويذكّر الجميع بالأثمان الباهظة التي دُفعت من أجل تحقيق قيم الحرية والكرامة. ان عدم الوقوف دقيقة صمت على أرواح هؤلاء الشهداء، لا تعكس التزامهم بمطالب الشعب السوري في التحرر من الظلم والاستبداد.
لكن، بينما يتجمع العديد من السوريين في الساحات ويهتفون مطالبين بالحرية، يبقى هناك تناقض واضح يجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار.
إن تجاهل آلام المعتقلين والضحايا الذين عانوا من انتهاكات النظام يثير تساؤلات حقيقية حول نوايا أولئك الذين يشاركون في مثل هذه التجمعات.
من المؤسف أن نرى بين الحضور من ما زال يتجاهل المآسي التي تعرض لها أشخاص عانت عائلاتهم من الاغتيالات والتهجير، بل وصل الأمر إلى مرحلة بات من الصعب فيها تصديق أن الجميع يسعى بإخلاص إلى العدالة.
في الأيام الأخيرة، تصاعدت الانتقادات والجدل حول استخدام علم الثورة السورية في التظاهرات، مما يعكس صراعات داخلية عميقة حول الهوية والرؤية المستقبلية للبلاد. إذ تسلطت الأضواء على تجمّعات قام بها سوريون بتنظيم الدعوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مثل "فيسبوك"، تحت مسمى "تجمع الشباب المدني". ورغم هذه الدعوات، كان التركيز الرئيسي على شكل الحكم المستقبلي في سوريا، حيث تم تناول قضايا مثل نبذ الطائفية والمساواة الجندرية. إلا أن هذه المطالب، وإن كانت نبيلة، تأتي في سياق يعكس تناقضات عميقة حول من يستحق أن يتواجد في ساحات النضال والتغيير.
ولعل ما يزيد الأمور تعقيدًا هو أن بعض الناشطين، الذين ما زالوا يؤيدون الخيار العسكري للنظام المخلوع، يتواجدون اليوم في نفس الساحات التي يعبر فيها الآخرون عن رغبتهم في الحرية. تصريحات مرصودة سابقًا لتلك الشخصيات، التي تدعو إلى استخدام القوة والتنكيل بالمناطق الخارجة عن السيطرة، تشكك في مصداقية دعاواهم الحالية. في هذا السياق، تظهر إشكالية حقيقية حول كيفية تصنيف المواقف، وهل من الممكن أن نثق بمن كانوا جزءًا من آلة القمع ذاتها.
في ضوء ذلك، يجب التأكيد على ضرورة اتخاذ خطوات قانونية ضد جميع من ساهم في إيذاء الشعب السوري، سواء من خلال التصريحات التحريضية أو من خلال العلاقات التي تربطهم بالنظام المجرم. الحق في العدالة يجب أن يكون مقدسًا ولا ينبغي التسامح مع أولئك الذين تحملوا مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة في مجازر النظام. وهذا يحتم علينا فتح الملفات الخاصة بالأشخاص الذين كان لهم دور فاعل في دعم النظام وإسكات الأصوات المنادية بالحرية.
على الرغم من كل ذلك، يبقى حلم الشعب السوري في بناء دولة علمانية، تضمن التعايش السلمي والكرامة لجميع مكوناته، هدفًا نبيلًا يسعى إليه الجميع، لكن ينبغي التمييز بين من يسعى حقًا لتحقيق هذا الهدف ومن لا يزال يحمل ولاءً أعمى للنظام السابق. يجب أن نؤكد أنه لا مكان لأولئك الذين اختاروا الخضوع لأدوات القمع في يوم الثورة.
في الختام، من المهم أن يُعطى لأبناء الشعب السوري حق التعبير الأسمى عن رؤاهم حول شكل الدولة ونظام الحكم المستقبلي، شريطة أن يتم ذلك ضمن إطار يحترم مبادئ الثورة الأساسية. يجب أن يبقى صوت الحرية والكرامة متفوقًا على أي دعوات للاحتفاظ بنظام الباطل والظلم. وبالتالي، فإن تحقيق الحرية الحقيقية يعتمد على قدرة المجتمع السوري على التوحد حول القيم الأساسية، بعيدًا عن الخلافات والانقسام.