التعليم في سوريا: تحديات وصعوبات في ظل الأزمات
كثيراً ما يتم تجاهل حق التعليم أثناء الحروب والصراعات، وقد لا يشكل هذا الحق مصدر قلق فوري مثل غيره من الحقوق الإنسانية، إلا أنه في الواقع مهم جداً خلال حدوث الأزمات والكوارث الإنسانية وبعد إنتهائها، حيث يؤثر تعطيل التعليم على إمكانية توفير الاستقرار والسلام الداخلي للأطفال واليافعين والكبار وعودتهم إلى حياتهم الطبيعية، وحرمانهم من التعليم يجعلهم غير متأهبين للمساهمة في التعافي الاجتماعي والاقتصادي لبلادهم، ويضر ذلك بالقدرة على بناء مجتمع قوي ومستقر، يتجاوز آثار الحرب و ينطلق منها لبناء مجتمع متماسك وبلاد متعافية شيئا فشيئا.
تعاني سوريا منذ ثلاث عشرة سنة من أزمات طالت جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والحيوية، وكان قطاع التربية والتعليم أكثر المتضررين من هذه الأزمات حيث تم خروج عدد كبير من المدارس - يقدر بالآلاف - عن الخدمة في المناطق الساخنة، منها ما هو مدمر كلياً والباقي بحاجة إلى إعادة تأهيل وتقدر الجهات المسؤولة في سوريا عدد الطلاب الذين تسربوا من العملية التعليمية حوالي 1.5 مليون طفل سوري يتوزعون على دول الجوار في تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر ودول الاتحاد الأوربي، بالإضافة إلى مليون طفل داخل سوريا. لقد أدى النزوح المتكرر للسكان الناجم عن المعارك والقصف المستمر والعشوائي في سوريا وخاصة على مناطق شمال غرب البلاد أدى إلى زيادة كثافة أعداد الطلاب في الصفوف وعودة المدارس إلى الدوام الصيفي وتقصير اليوم الدراسي والحصة الدرسية وإعادة توزيع المعلمين المتكرر على المدارس وعلى النقاط والمراكز التعليمة في مخيمات اللجوء، وبالتالي تراجع نوعية التعليم و زیادة تكاليفه وانخفاض جودته. أما التأثيرات غير المباشرة والبعيدة المدى فيصعب حصرها والتعبير عنها رقمياً ولعل أخطر تلك التأثيرات هو تراجع العديد من المكتسبات التربوية التي حققتها سوريا في العقود الماضية والتي احتلت من خلالها موقع متقدم دولياً، سواء ما تعلق منها بتحقيق أهداف التعليم للجميع والتعلم مدى الحياة أو الأهداف الانمائية والتنمية المستدامة وضياع الاستثمارات الهائلة التي وضعت فيها بفعل الحرب.
ومن خلال رصد الواقع التربوي والتعليمي في مناطق متفرقة من البلاد خلال سنوات الحرب ورصد الكوادر التعليمية والتسرب الدراسي والمناهج الدراسية والحاجة الملحة للدعم النفسي الإجتماعي ومدى استيعاب المدارس لأعداد التلاميذ تبين أن خصائص المتعلم تعد من أهم العوامل التي تحدد فاعليه التعلم لأن القدرات الحركية والقدرات العقلية والصفات الجسدية تختلف بين المتعلمين، كما وتختلف شخصياتهم واتجاهاتهم وقيمهم. كما أن التفاعل الدائم بين سلوك المعلم والمتعلم يؤثر على نتائج عملية التعلم. إن شخصية المتعلم الذكي ترتبط بطرق التدريس الفعالة التي تقوم على التفاعل بأشكال متعددة لكن إفتقار البيئة المدرسية على عناصر التشويق والجذب من حيث خلو باحات المدرس من الألعاب والرسوم والمساحات الخضراء والملاعب وعدم حصول التلميذ على المساحة المخصصة له نتيجه الكثافة العددية التي فرضتها الأزمة. أما عن المعلمون فضعف التأهيل والإعداد الجيد فى المرحلة الجامعية وضعف التدريب أثناء مزاولة المهنه وتراجع أداء الكوادر التعليمية في المدارس العامة على حساب تميزهم في المدارس الخاصة و ضعف الأجور وارتفاع المستوى المعيشي كما أن انخفاض الدافعيه لدى المعلمين لعدم وجود أليه تقييم حقيقيه وصعوبة التعامل مع الأعداد الكبيرة للتلاميذ والخلل في توزيع الكوادر التعليمية نتيجة إعادة توزيع العاملين بسبب الظروف الراهنه وعدم استقرار الواقع التربوي للطلاب وانقطاعهم عن الدوام واضطرارهم الى تغيير أماكن اقامتهم عده مرات خلال العام الدراسي كل ذلك أسهم في ظهور الفاقد التعليمي لدى الأطفال بشكل كلي أو جزئي فضلا عن الأزمات النفسية. ومع ذلك، نجد في مدارس شمال غرب سوريا أن عدد جيد من نخبة التلاميذ المتفوقين والمتميزين هم من نتاج المدارس العامة على الرغم من انخفاض جودة الحرية المقدمة مقارنة بالمدارس الخاصة وعلى الرغم من الجهود المبذولة في تطوير المناهج ومواكبتها لروح العصر الا أن التطور السريع الذي تواكبه هذه المناهج تعتبر من أبرز التحديات التي تواجه التعليم شمال البلاد عموما كونها لا تتناسب مع الواقع الحالي الذي فرضته الظروف والأزمات اللاحقة التي تعصف في المنطقة.
فيما يتعلق بالبيئة المدرسية نتيجه الكثافة العددية في الصفوف والتي تعيق تنفيذ استراتيجيات التعلم الحديثة المرتبطة بالمنهاج وعدم قدرة الكثير من الأهالي من الناحية المعرفية على التعامل مع المناهج ومعاناة الكوادر التعليميه على التعامل مع المناهج وعدم وجود أدلة للمواد بالاضافه الى عدم توفر الوسائل التعليمية المناسبة، نعود لنقول بأن العملية التعليمية شهدت انهيارا كبيرا بدأ بنزوح أعداد كبيرة من الأهالي من مناطق إلى أخرى ما أدى إلى تسرب كثير من أبناء هذه المناطق من المدارس مجبرين الى شوارع المدن وأسواقها يعملون منذ ساعات الصباح الأولى ليحصلوا على لقمة العيش. تفند منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونسيف) في تقاريرها الصادر في العام 2019 كل المصاعب التي يعانيها الأطفال السوريون وعائلاتهم مع التعليم في سوريا عموما وشمالها على وجه الخصوص وتذكر في تقريرها أن أكثر من 2 مليون طفل في سورية أي نحو ثلث الأطفال السوريين في مرحلة التعليم خارج المدرسة بينما يواجه 13 مليون طفل ( في الداخل وفي دول الجوار ) خطر التسرب المدرسي، كما أشارت اليونيسيف في شهر آذار من عام 2022 أن واحد من بين ثمانية أطفال في كل صف دراسي يحتاج الى دعم نفسي إجتماعي تخصصي لتحقيق التعلم الفعّال. أما الأسباب الكامنة وراء ذلك فهي النزوح أولاً لأنه و بحسب المنظمة بلغ عدد النازحين داخل سوريه 6.2 مليون منهم 2.6 مليون طفل، والفقر ثانياً حيث يعيش أربعه من بين كل خمسة أشخاص من السوريين تحت خط الفقر ما يدفع بالأطفال إلى اتخاذ تدابير قصوى للبقاء على قيد الحياه مثل التوجه الى عمالة الأطفال وزواج الأطفال وذلك لمساعدة أفراد عائلاتهم في سد الرمق، الأمر الذي دفع الكثير من مؤسسات المجمتع المدني وعلى رأسها التحالف العملياتي المشترك الذي يضم المنتدى السوري والدفاع المدني السوري وسامز (الجمعية الطبية السورية الأمريكية) إلى إيجاد صيغة عمل مشترك وتمكنت خلال الفترة التي أعقبت استقرار الأوضاع الأمنية في مناطق شتى من إعادة تأهيل مدارس كثيرة واصلاحها لتتمكن من تقديم خدماتها للأطفال، ومن ناحية أخرى قام المنتدى السوري منذ تأسيسه بترميم عشرات المدارس شمال غرب البلاد وافتتاح مدرسة المنتدى النموذجية في العام الفائت التي تقدم تعليم عالِ الجودة، تعليم تفاعلي وجذاب بين المعلم والمتعلم يبني شخصية الطفل وينمي مهاراته ويربيه على القيم النبيلة لتكون هذه المدرسة والنهج الذي تسلكه نواة لمجموعة مدارس سيعمل المنتدى السوري على تشيدها في المنطقة في الفترات القادمة. وبالعموم إن صعوبة عودة النازحين الى مناطقهم ورغبة آخرين في البقاء في المناطق التي نزحوا اليها نتيجة أسباب اقتصادية تسببان ضغطاً مستمراً على البنى المدرسية في شمال البلاد منذ بدء الحرب وطوال سنواتها وما حملت معها من أزمات. كما أن ضياع سنوات من الدراسة نتيجة عدم تمكن ملايين الأطفال والشبان من استكمال تعليمهم نتيجة أسباب جلها اقتصادية واجتماعية أو بفعل اضطرار أسرهم إلى النزوح المتكرر داخلياً وخارجياً أدى إلى انخفاض نسبة المسجلين في التعليم في العام 2023 بنسبة تصل إلى 40% عما كانت عليه في العام 2010 وقد أشارت نتائج الدراسة التي أجرتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر بأن 57 ٪ من الشبان الذين خضعوا للدراسة تخلفوا عن التعليم بصورة جزئية أو كاملة بسبب تداعيات الحرب التي تشهدها البلاد، وعلى الرغم من أهميه بعض البرامج التي أطلقتها عدة منظمات في سوريا – في شمالها بالتحديد - منها مؤسسة إحسان للإغاثة والتنمية، إحدى برامج المنتدى السوري، بالشراكة مع منظمة اليونيسيف ومنظمة إنقاذ الطفل لتشجيع المجتمعات المحلية والأسر على إعادة أبنائها المتسربين إلى مقاعد الدراسة بغية تعويض ما فاتهم، إلا أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر فيها تلك الأسر والمجتمعات لا تزال تحول دون تحقيق استجابة كاملة وهكذا فإن البلاد ستواجه مستقبلاً جيل كامل من غير المتعلمين وخسارة عقود من الجهود التنموية التي بذلت في مرحلة تتطلب أفضل استثمار لرأس المال البشري من أجل إنجاح عملية إعادة البناء والأخطر هو ما خلفته سنوات الحرب الطويلة والأزمات المتلاحقة من تدهور كبير اقتصادياً ومعيشياً وأفقدت شريحة ليست قليلة من الأطفال ومن الشبان الحافز على التعليم وشجعتهم على الإنخراط باكرا في سوق العمل.
محمد وردان – فريق الحماية في المنتدى السوري.