القضيّة السوريّة كرةٌ في ملعب المجتمع الدولي
لم يشهد تاريخ العالم في العصر الحديث موقفاً دولياً واحداً حيال أي أزمة من الأزمات التي حدثت ولا زالت تحدث ، بيد أن فشل هذه المجتمع في حل العديد من القضايا والنزاعات في هذه العصر، وتنامي الانقسامات في داخله ، ساهم بشكلٍ كبير في تعزيز هذا الفشل ، ناهيك عن غياب الثقة من قبل الشعوب تجاه هذا المجتمع بعد ما رأته منه من خذلانٍ وتجميدٍ لقضايا الظلم والاضطهاد في العالم ، ولعل القضيّة السوريّة تقع في قلب تلك الانقسامات ، التي كان من شأنها أن تسهم في تصاعد أعمال العنف ، وازدياد خطر المواجهة ، وشتات المجتمع السوري وانعدام الاستقرار فيه .
مجلس الأمن الدولي مسلخ الديمقراطية
ألقت الثورة السورية بظلالها على مجلس الأمن الدولي من حيث الانقسامات والصراعات الاقليمية ، وعلى غرار إخفاق الأمم المتحدة في العديد من الأزمات ، جاءت قرارات المجلس مكبّلةً بالفيتو الروسيّ والفيتو الصينيّ ، جاءت تلك القرارات مخيّبة للآمال ، الفيتو الذي طالما كان رافضاً لأي قرارات من شأنها أن تنال من أي نظام يمارس الظلم والطغيان بحقه شعبه ، ف لم يُتخَذ أي إجراء صارم يوقف العنف والانتهاكات بحق المدنيين السوريين.
فَشِلَ المجتمع الدولي في اتخاذ قراراً يضع حداً للفظائع الجماعيةِ الأخطر إنسانيا في تاريخ العصر الحديث ، والتي تُرتكب في سوريا منذ أكثرَ من عقدٍ من الزمن ، حتى وصلت تلك الفظاعات إلى جرائم الإبادة الجماعية بحق السوريين ، ويتحمل هذا الفشل الدول الفاعلة والقوى الإقليمية والدول الدائمة العضوية في المجلس التي يقع على عاتقها حفظ الأمن والسلم الدوليين. سوريا حلبة الصراعات الدولية التي تتاجر بأرواح البشر!
مع بداية الثورة السوريّة بدأت ترتسم ملامح آراء القوى الدوليّة تجاه القضيّة السورية ، من خلال التصريحات الحكومية وبيانات الاستنكار على وسائل الإعلام تارةً ، والخطوات السياسية التي بدأت تتخذها بعض الدول والتي تجلّت في سحب السفراء واغلاق القنصليات والقطيعة الدبلوماسيّة لتلك الدول تارةً أخرى .
ومع امتداد عمر الثورة السلميّة في سوريا ، تحول النضال السلمي إلى نضال مسلح ، بعد تصاعد أعمال العنف من قبل النظام السوري ضد المتظاهرين السلميين . وعلى صعيدٍ آخر ، بدأت القوى الإقليمية والدولية و بعض الدول العربية ، بدأت في انتقاء الأطراف التي سوف تدعمها بالأموال والسلاح ، فمنها من قدم نفسه على أنه ضامنٌ و داعمٌ للثورة وثوارها ، ومنهم من دعم النظام الحاكم في استمرار بقائه في حكم السوريين ، وقمع حرياتهم . أصبحت الساحة السوريّة تمثّل ساحة مبارزة بالوكالة بين أنظمة القوى العالميّة لبسط السيطرة على ملف القضية السورية ، فسخرت كل من دول روسيا والصين وإيران ، سخرت إمكانياتها العسكرية والسياسية والاقتصادية لتكون الداعم الأكبر للنظام الحاكم في سوريّا ، فتمثلت بدايةً بمعارضة أي قرار أممي من شأنه أن ينال من النظام السوري تحت الفصل السابق من ميثاق الأمم ، وصولاً إلى الاجتياح الجويّ الروسيّ عام 2015 الذين كان كفيلاً في قلب موازين القوى وتغيّر خارطة السيطرة على الأرض آنذاك ، وسارعت إيران الى الزجّ بالميليشيات الطائفيّة المجهّزة بالعدّة والعتاد والأموال ، للقتال إلى جانب قوات النظام الحاكم لتعزيز قواته البريّة ، فيما كانت الصين تلقي بكامل ثقلها السياسي على الساحة الدوليّة دعماً للنظام في قمعه لشعبه وتغطيةً لأفعاله الإجراميّة
وفي الطرف الآخر قدمت الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين ، قدموا أنفسهم على أنهم داعمين لما أسموها بالمعارضة المعتدلة ، لكنّ هذه الدعم لم يكن الشيء المطلوب مقارنةً بذلك الذي قدمته روسيا وإيران والصين للنظام ، حتى كانت تلك الدول في كثير من الأوقات ، كانت تَعتبِرُ بأن أولويّة ذلك الدعم يجب أن يكون للمساعدات الغير قتاليّة .
داعمين آخرين نشطوا في إمداد المعارضة السورية بالأموال والسلاح ، كان أبرزهم دول السعودية وقطر وتركيا ، فقدمت تلك الدول الدعم المالي والعسكري للمعارضة السوريّة المسلّحة ، التي بدورها وسّعت من مناطق سيطرتها على طول حدود تركيا مع الشمال السوري ، بعد دعمها وازدياد أعداد مقاتليها ، كما استطاعت في الجبهة الجنوبية في ذلك الوقت من بسط السيطرة على طول الحدود الأردنية مع الجنوب السوري ، سيطرةً سريعة بدت وكأنها أخافت جميع الدول ، التي كانت تنسج خيوط المؤامرة الدولية ضد الشعب السوري فمع اقتراب وصول الثوار في الجنوب لمنطقة ريف دمشق ، فسارعت حينها الدول الإقليمية الفاعلة بدعم المعارضة ، سارعت بالمناداة لضرورة توحيد الدعم والقيادة والتنسيق بين فصائل الجنوب ، فاستدعت جميع قادة الفصائل المحليين إلى العاصمة الأردنيّة عمّان ، لإبلاغهم بتشكيل غرفةِ عملياتٍ عسكرية مشتركة أُطلق عليها اسم ( الموك ) يديرها ما أسموه بمجموعة أصدقاء الشعب السوري ، والتي تضمّ كلاً من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والأردن وبعض دول الخليج ، بدأت حينها تلك الغرفة بتسليح الفصائل بالأسلحة الفردية والمتوسطة وتقديم الدعم المالي وافتتاح معسكرات تدريبية بشكل منظم ، لكنها أبلغت تلك الفصائل بضرورة التنسيق مع الغرفة عند القيام بأي عمل عسكريّ ضد قوات النظام ، وأن المخالفين في ذلك الأمر سيقطع عنهم الدّعم بشكل نهائي.
أصبحت تلك الفصائل ترتهن لأوامر الغرفة ،فأُوقفتِ المعارك بشكل نهائي مع بداية عام 2015 ، حتى وصل الوضع إلى توقيع كل من الولايات المتحدة وروسيا والأردن لاتفاقية وقف اطلاق النار في الجنوب السوري مع بداية يوم الأحد التاسع من تموز عام 2017 في ظل غياب أي طرف سوري عن حضور هذه الاتفاق !
ومع استمرار وقف اطلاق النار في الجنوب السوري ، كانت الحملة الروسية على الغوطة الشرقية قد شارفت على الانتهاء والسيطرة ، وما لثبت أن انتهت حتى بدأت الحشود العسكرية للنظام وداعميه بالتوافد إلى الجنوب والتجهيز للمعركة ، وفي مقال نشره موقع " عنب بلدي " في تشرين الأول لعام 2019 قال الموقع بأن الولايات المتحدة وحلفاءها قد تخلّوا عن فصائل المعارضة في الجنوب السوريّ برسالة عبر تطبيق واتس أب ، أُرسلت لقادة فصائل المعارضة في الجبهة الجنوبية بداية شهر حزيران عام 2018 تعلن فيها الولايات المتحدة تخليها عن الفصائل المعارضة في الجنوب السوري ، فيما بدى وكأنها اتفاق غير معلن لتسليم المنطقة الجنوبية للنظام الحاكم بتوافق دولي ، وقد حصل ما أرادوا
الناشط الحقوقي أسامه الحريري "اسم مستعار " البالغ من العمر 40 عاماً والمطّلع على أحداث الثورة السورية منذ بدايتها والذي يقطن الآن في منطقة شرق درعا ، يقول أسامه : أنّه بعد 12 عاماّ من التضحيات التي أدت إلى موجات هجرة ونزوح بالملايين ، ومئات الآلاف من الشهداء والمفقودين والمعتقلين ، ينفطر القلب لما آلت إليه الأوضاع في سوريا ، محمّلاً المجتمع الدّولي مسؤولية ما وصلت إليه البلاد .
يضيف بأنه من المحزن أكثر أن تستقبل دول الغرب ملايين السوريين المهاجرين ، وبلادنا العربية أغلقت أبوابها بوجهنا بل وأصبح المواطن السوري بنظر الكثير من الدول العربية موطناً إرهابيّا ، ويستشهدَ أسامه أيضاً مثالاً على عدم إنسانية هذه المجتمع حسب وصفه في بطء تعامل المجتمع الدولي مع مأساة الزلال وحالة اللامبالاة والخذلان التي اعتاد أن يشاهدها السوريين من المنظومة الدولية تجاه قضيتهم ، يقول أسامه : بعد كل ما رأيناه من هذا المجتمع أريد أن أقول بأنه قد انسلخ عن هويته الإنسانية وباتت سياسات تلك الدول وأهدافها أعلى من أي قيمة بشريّة ، وأن الإنسانيّة التي ينادون بها ما هي إلا مجرد كلام .
إنّ مأساة ملايين السوريين تزداد يوما بعد يوم ، بعد أن أصبحت رهينة في يد حفنة من الشخصيّات السياسيّة القياديّة للدول الكبرى ، والأنظمة العالمية التي لا تريد تقديم أي تنازلات في قضية السوريين ، بل وتستمر في رهاناتها على تأجيج الصراعات ، وإطالة عمرها، حتى ولو كان ذلك على حساب الشعوب ، إذ يترتب اليوم على المجتمع الدولي "الإنساني" أن يقدّم كافة أشكال الدعم للسوريين لحل قضيتهم بأنفسهم ، بعيداً عن تسييس القضية وعن التدخلات الخارجيّة ، وأن يُمارس الضغط من أجل انتقال سياسيّ يسمح بالاستقرار والسلام ومن ثم إعادة إعمار البلاد .