من ذاكرة الموت: كارثة غرق السفينة التي كانت تحمل 30 طبيباً سوريّاً
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px"><strong>غازي عينتاب (قاسيون) -</strong> حادثة غرق السفينة بتاريخ 11/10/2013، التي أبحرت من ليبيا إلى أوروبا، وكانت تحمل أطباء وعائلاتهم، لو كانت في أيّ بلدٍ أوروبي، لاستقالت حكوماتها بالجملة، وقلب الرأي العام هناك الموازين على رؤوس مسؤوليها، خسارة هذا الكم من حامليّ أرفع شهادة جامعية سورية، تعدُّ كارثة بكل المقاييس، ولحجمها سننشر، شهادة أحد الأطباء الناجين، التي تعتبر من ذاكرة الموت.</span></sup></span></p>
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px">تقول الشهادة: «قرر حوالي 30 طبيب الذهاب بحراً (نصفهم توفوا غرقاً رحمهم الله) د. منور رحيل (طبيب اختصاصي داخلية) و زوجته (طبيبة أطفال) وابنته، وشقيق زوجته د. بشر (اختصاصي داخلية)، د. عمران رسلان (اختصاصي عظمية) د. خالد العوض (اختصاصي جراحة أعصاب) و نجله و ابنتيه، د. مصطفى الدقاق وزوجته، وأبنائه الشباب، د. سامي السيد محمود و زوجته ونجله وابنته، ونجا نجله فاتح 6 سنوات».</span></sup></span></p>
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px">وأوضحت الشهادة أن «الأطباء من خيرة الأطباء، وأمهرهم والمعروفون برجاحة عقلهم (كي لا يشكك شخص لا بعقلنا ولا بنوايانا) تكلمنا مع المهربين، وقررنا أن نأخذ أفضل وأكبر سفينة، واختيار أفضل مهرب حينها، مع الأخذ بالأسباب من ناحية تأمين ستر النجاة من المهرب (والتي لم يؤمنها فيما بعد رغم الطلب مراراً بل أخبر أنها موجودة على السفينة)، ووجود جهاز ثريا، وبوصلة وإعلان ايطاليا عن بدئها لخطة لإنقاذ السفن في البحر».</span></sup></span></p>
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px">في نقطة التجمع، وبعد ثلاثة أيام من الانتظار، تم تأجيل الرحلة بسبب سوء الأحوال الجوية، وبعد أسبوع رجعنا، وكان الوضع مبشراً، أن الطقس سيكون ممتازا طيلة الأسبوع الذي يليه من حيث سرعة الريح وارتفاع الموج واعتدال الحرارة.</span></sup></span></p>
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px">تتابع الشهادة الحديث: «بعد الإقلاع بحوالي ثلاث ساعات لحقت بنا سفينة صغيرة عليها علم الأمازيق، وعرفوا عن أنفسهم أنهم خفر سواحل، لكن من الواضح أنهم كانوا عصابة لوجود مشكلة بينهم، والمهرب، عرضنا عليهم المال فرفضوا، وحاولوا قلب السفينة برمي حبال وتطويقها، أخبرناهم أننا لاجئين وهاربين، ومعنا نساء وأطفال وأغلبنا سوريين، لكن كل ذلك لم يشفع لنا، ليستمروا بالمطاردة والتهديد، ثم أصبحوا يطلقوا الرصاص بالكلاشينكوڤ في الهواء، ثم بعدها بدؤوا بإطلاق الرصاص على حجرة القبطان، وجسم السفينة، والكل يعرف أن ثقب صغير بإمكانه ملء برميل كبير بمرور الوقت، لاسيما تحت ضغط الماء، لأنهم تعمدوا إصابة القسم السفلي من السفينة، أصيب إثرها ثلاثة أشخاص إصابات في الأطراف، تم تضميدهم، وإيقاف النزف من قبلي، وقبل بعض الأطباء على السفينة».</span></sup></span></p>
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px">وأردف الطبيب الشاهد: «بحلول الساعة الحادية عشر ظهراً، أيّ بعد 13 ساعة على انطلاق السفينة، تم الاتصال بخفر السواحل الإيطالي، لكنهم رفضوا بحجة أننا بعيدين عنهم، وأننا في المياه الدولية، وأخبرونا أن نتصل بمالطا، لأن مجال تغطيتها للبحر أكبر، وتم الاتصال حسب تأكيداتهم بمالطا، وإعطاء الإحداثيات وتبين فيما بعد بالتحقيقات التي قام بها الصحفي الإيطالي المشهور «فابريزيو غاتي - <span dir="LTR">Fabrizio Gatti</span>» أن السفينة الإيطالية كانت على بعد ساعة واحدة منا، والسفينة المالطية كانت على بعد ساعتين منا ، تأخرت المساعدات كثيراً، وبحلول الساعة الرابعة عصراً كانت السفينة تترنح، وبدت أخفض من المستوى الذي كانت عليه، أصاب الهلع جميع الركاب، ووقعت بعض الحقائب في البحر، خاطبني ابني طارق مستغرباً ولا أنسى أبدا هذه اللحظة: (بابا... شلون شنطتنا عبتسبح لحالها بالبحر، شلون هيك؟؟؟!!!!)».</span></sup></span></p>
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px">«تسرب الماء بمقدار 5 سم، وازدحام الطابق الأوسط من السفينة دفع بي إلى إرسال الصغار (طارق و بشر) إلى صديقي د. أيمن في القسم العلوي من السفينة، بعد حوالي ربع ساعة، تسرب قسم من الماء إلى القسم الأوسط من السفينة، بدأت السفينة بالترنح يمنة- ويسرة- وتفقد توازنها، لم يكن أحد يعرف حجم الماء المتسرب، فهو كامن في الفراغ بين الجسم الخارجيّ، والجسم الداخلي للسفينة، لكن ترنحها بهذا الشكل جعل الركاب ينتقلون يمنة- ويسرة- في محاولة لخلق توازن مضاد، أيضاً انتقال الركاب من القسم السفلي للسفينة للأعلى جعل مركز ثقل السفينة أعلى من منصفها، بدأت أدعو بصوت مرتفع بدعاء ذي النون: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) وصرت أكرر الدعاء مراراً، وزوجتي تنظر إليّ بخوف لكني أنظر إليها بطرف عينيّ، وأنا غير قادر على النظر إليها مباشرة خجلاً، وكي لا أرى ملامح الخوف على وجهها، لم يكن أحد يعرف ماذا سيحدث؛ أو يتوقع ماذا سيحدث، الكل كان ينتظر أن تأتي سفينة المساعدة في اللحظات الأخيرة».</span></sup></span></p>
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px">يكمل الطبيب بداية المأساة «في الساعة 4.45 عصر، يوم الجمعة، و فجأة؛ وبلحظة؛ وبعد أن مالت السفينة للأيسر، انقلبت السفينة على جانبها الأيمن 90 درجة، فأصبح حائط السفينة الذي كان خلفنا، تحت أقدامنا، ووقفنا عليه، والشباك الكبير الذي كان أمامنا أصبح فوقنا، كانت زوجتي أمامي، و ظهرها لي وبثانية واحدة غمرتنا المياه، فأمسكت بخصر زوجتي بقوة بكلتا يديّ بقوة، وبعد ثانية أخرى؛ وجدت نفسي وسط الماء دونها، أحسست من قوة عزم الخبطة بانفلات يدي منها، أحسست (وهذه أول مرة أقولها للناس) أحسست كأن الله قال لي: (لن تأخذها، الأمر ليس بيدك...) بعد نحو 15 ثانية، وجدت نفسي دونها، وأنا فوق الماء والسفينة بأكملها مقلوبة رأساً على عقب 180 درجة، أدركت أنها علقت بالسفينة مثل كثير من الناس، مثل حوالي 150 شخص علقوا داخل السفينة، كان من المستحيل إنقاذها لأنها غير مرئية أبداً، والسفينة أصبحت على عمق سبعة أمتار، اعتقدت مثلما يعتقد أيّ إنسان عندما يرى مصيبة كبيرة جداً، أن هذا كابوس سرعان ما سأستفيق منه، فجأة وجدت نفسي بين العشرات من الناس الذين يتخبطون في الماء، والذي لا يعرف السباحة يقفز فوق الآخر، هنا دخلت في حالة من الصدمة التي تشعرك أنك في يوم المحشر، هنا كل إنسان يقول اللهم أسألك نفسي... نفسي».</span></sup></span></p>
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px">وأضاف الطبيب «بقيت مصدوماً لا أعلم ماذا أفعل، وأنا أستغفر والهج بلا إله إلا الله، وأقول سامحوني يا حبيباتي، وأنا أبكي، خطرت لي آلاف الأفكار، منها ما يقول لي أنه كابوس سرعان ما سأستيقظ منه ومنها ما يخطر ببالي، ماذا سأقول لأهل زوجتي وكيف حصل هذا؟ غرق حوالي 250 شخص حسب الإحصائيات الرسمية لمالطا وإيطاليا، قسم كبير منهم يجيد السباحة (منهم زوجة صديقي د. أيمن رحمها الله، لديها ميداليات في السباحة، كانت تقول له مازحة: إذا صار شي أنا بنقذك، فنجا هو الذي لا يعرف السباحة وغرقت هي، ومنهم صديقنا د. مصطفى الدقاق، الذي كان يقول رحمه الله: اذا صار شي لا سمح الله، فأنا بعرف أسبح، وأولادي الشباب كمان (سبيحة)، وتوفي هو وأولاده، توفي أناس كثيرون معهم بزات نجاة منهم د. عمران رسلان وجميع عائلته، علقوا في السفينة، ولم يوجد منهم أيّ فرد، ومنهم د. خالد العوض ونجله واثنتين من بناته، ونجا أشخاص لا يعرفون السباحة أبداً، منهم طبيب زميلنا وزنه 130 كغ، ومنهم طبيب تعرفنا عليه، توفيت ابنتيه الصغار لديهم شلل أطفال، وداء رئوي ولا يجيد السباحة، حتى مكان توضع الأشخاص في السفينة كان للموت انتقائية فيه، ففي نفس الأماكن من ظهر السفينة علق أناس فيها ونجوا آخرين، و لكن من كان في الطرف الأيمن من السفينة التي انقلبت على جنبها الأيمن علقوا جميعاً، ومنهم من علق في الغرف المغلقة أو الكاريدور الطويل، منهم صديقنا طارق جاموس الذي كان في غرفة فيها جميع أولاد خالته السبعة، دخلت المياه الغرفة، وضغط الماء أغلق الباب من الخارج، أخذ نفسا عميقاً دفع الباب الذي علق برجله، وخرج وبقي أولاد خالته الذين غرقوا جميعاً... الخلاصة من نجا... نجا بتيسير الله و حسب الأسباب لم يكن في مكان يعلق فيه؛ أو عند الانقلاب أنقذف لمكان بعيد عن السفينة، بقيت هائماً أبحث هنا وهناك دون جدوى، السفينة بعد دقيقة واحدة من انقلابها أصبحت بالأكمل تحت سطح الماء وهبطت إلى الأعماق السحيقة واختفت عن الأنظار، بعدها بربع ساعة، حلقت طائرة شراعية فوقنا كانت تصور، ثم بعد ربع ساعة أتت مروحية وألقت عدة قوارب نجاة مطاطية على شكل خيمة تتسع 25 شخص و ستر نجاة، لكنها رمتها في مكان بعيد عني، رأيت على مسافة حوالي 150 متر بزات طافية من بعيد، قررت أن أقطع هذه المسافة علي أحظى بها، وبعد قطع تلك المسافة الكبيرة تبين لي أنها ليست بزات نجاة وإنما شخص متوفي لابس بزة نجاة ومقلوب على بطنه».</span></sup></span></p>
<p dir="RTL" style="text-align:justify"><span style="color:#000000"><sup><span style="font-size:18px">في ختام المحاولة مع ذاكرة الموت يقول الطبيب الشاهد، الناجي من بين زملائه: «بعد أن يئست من اللحاق ببزات النجاة، والقوارب المطاطية التي أصبحت بعيدة جدا عني بسبب المسافة التي قطعتها، تشنجت رجلي و بعد ساعة من السباحة أصبت بوهن؛ وضعف كبير، أدركت أني سأغرق، و صرت أتشاهد على روحي، وأنا أطلب من الله حسن اللقاء، فجأة وجدت قطعة خشب كبيرة زرقاء تبين أنها باب خشبي من السفينة...! لا أعلم كيف سبحت هذه القطعة مسافة حوالي 200 متر من السفينة، تمسكت بالباب الخشبي، وسبحت تدريجيا نحو القوارب المطاطية، وأنا في حالة صدمة وتعب شديدين، وأنا أشاهد ما تبقى من الناجين يسبحون؛ أو يصارعون الموت أو ميتون وطافين على وجه الماء، بعد حوالي الساعة والنصف، بدأت تظهر سفن الإنقاذ، صعدت على الخيمة المطاطية، وجلست أبكي وأتقيأ، بعدها اقتربت منا سفينة صيد إيطالية صعدنا عليها ثم أخذتنا السفينة المالطية... لا حول ولا قوة إلا بالله».</span></sup></span></p>